عندما أرست الولايات المتحدة قواعد الديمقراطية، لتكون أساسا لبناء قيادتها للعالم، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ارتكزت الرؤية الأمريكية على فرض مبادئها على دول العالم، ليكون "حكم الشعب" بمثابة دستورا داخليا لها، بينما أصبح الأمر أحد أهم المعايير التي تستمد منها الأنظمة الحاكمة شرعيتها، عبر العديد من الآليات، كالانتخابات، والتعددية الحزبية، وحرية التعبير، غيرها من المصطلحات الأخرى، التي تصب في مجملها في صالح مفهوم "الديمقراطية" باعتباره المصطلح الأعم والأشمل، الذى يمثل نموذجا سعت واشنطن نحو التبشير به لعقود طويلة من الزمن، وقدمت من أجله المزايا، والعطايا، بينما ضربت المارقين، والمتمردين عليه، بـ"عصا" عقوباتها، في حين كان هذا المفهوم ذريعتها للتدخل الصريح والمباشر في شؤون الدول الأخرى، من أجل إعادة توجيه بوصلتهم السياسية، وتحقيق المصالح الأمريكية.
ولعل النموذج العراقى على سبيل المثال يعد الأبرز على محاولة واشنطن "الفجة" ليس فقط لفرض المفهوم، على المحيط الدولى، أو تصدير النسخة الأمريكية في هذا الإطار، وإنما أيضا، يجسد الكيفية التي استطاعت من خلالها الولايات المتحدة، المتاجرة بالمفهوم، وربما غيره من المفاهيم، على غرار "أسلحة الدمار الشامل"، و"الحرب على الإرهاب"، لتكون ذريعة للتدخل العسكرى، لتحقيق السيطرة الكاملة على بلاد الرافدين، وبالتالي توطيد نفوذها في الشرق الأوسط، فى لحظة ربما كانت سانحة لتحقيق هذا الهدف، في ظل الهيمنة الأمريكية الكاملة على العالم، بالإضافة إلى استغلال الزخم الناجم عن أحداث 11 سبتمبر في تلك الفترة.
وهنا أصبح النهج القمعى، والقائم على استخدام القوة العسكرية تارة والعقوبات الاقتصادية تارة أخرى، هو الوسيلة التي استخدمتها أمريكا لنشر "الديمقراطية"، في انعكاس صريح لحالة من التعارض الصريح، بين الهدف والوسيلة التي يمكن تحقيقه بها، فتحولت الولايات المتحدة إلى "الديكتاتور"، بينما صار "المفهوم" القائم أساسا على فكرة تداول السلطة، هو أحد أهم وسائل السيطرة، والاحتفاظ بمقعد القيادة الدولية للعالم لسنوات أطول، وهو الأمر الذى أتى بثماره لعقود طويله، حيث تمكنت واشنطن من تشكيل المعسكر الغربى، لتخوض به الحرب الباردة منذ أواخر الأربعينات من القرن الماضى، ثم استمر الحال بعد ذلك، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى في التسعينات، لتفرط بلاد "العم سام" في استخدام نهجها "الديكتاتوري"، عبر غطاء "الديمقراطية.
إلا أن الأمر ربما أصبح مختلفا إلى حد كبير في الآونة الأخيرة، جراء تصاعد حدة المنافسة الدولية، وصعود قوى مؤثرة، لا تؤمن بالنموذج الأمريكي، فأصبحت الحاجة ملحة إلى التحول من "ديمقراطية الأنظمة" أو ما جرى العرف على تسميته "الديمقراطية العالمية"، والتي تقوم على نشر الديمقراطية داخل دول العالم، إلى ما يمكننا تسميته بـ"ديمقراطية المجتمع الدولى"، أو "الديمقراطية الدولية"، والتي تقوم على تطبيق المفهوم على مستوى العلاقة بين الدول، عبر السماح لـ"الدول المارقة"، والتي باتت تجد دعما كبيرا من منافسى واشنطن على قمة النظام الدولى، باختيار نموذج الحكم بما يتناسب معهم، مقابل الوصول إلى صيغة مناسبة، أو بالأحرى "صفقة" يمكن من خلالها تحقيق أكبر قدر من المصالح، وهو ما يمثل تغييرا مهما في تاريخ السياسة الدولية في السنوات الأخيرة، على غرار التقارب الأمريكي مع كوريا الشمالية، والذى يمثل نقطة تحول كبيرة في النهج الذى تتبناه واشنطن، يعكس اعترافا بنهاية حقبة اتسمت بفرض "النماذج الأمريكية" على العالم، وبداية مرحلة جديدة لا مجال فيها إلا لتحقيق المصالح المشتركة.
وعلى الرغم من التغيير الواضح في النهج الأمريكي، تبقى حالة من الارتباك، إثر ازدواجية تبدو واضحة، في التعامل مع المحيط الدولى، تحكمها الحالة الدولية والصراعية، وهو ما يبدو مثلا في الموقف من الصين، والذى تحول من مجرد صراع تجارى، إلى حالة أشبه بـ"الحرب الباردة"، لتصبح "الديمقراطية" وشعاراتها بمثابة "عصا" يمكن من خلالها استخدام العقوبات تارة، والتدخل في الشؤون الداخلية عبر تايوان وهونج كونج تارة أخرى، والتضييق الأمني تارة ثالثة، وذلك لتحقيق المصلحة الأمريكية في المرحلة المقبلة.
وهنا يمكننا القول بأن المفاهيم التي طالما أرستها واشنطن خلال ما يقرب من ثمانية عقود من الزمن، باتت تحمل وجها جديدا، يتناسب مع المعطيات الراهنة في إطار نظام دولى ربما لن يكون تحت سيطرة قوى واحدة، في إطار صراع شرس، متعدد الأبعاد، وهو ما يفتح الباب أمام العديد من الصفقات، التي من شأنها إعادة "صياغة المفاهيم" لتتناسب مع النظام الدولى الجديد.