لا يوجد مثل الإمام البخارى فى تاريخ التراث الإسلامى، فقد استطاع أن يثير ضجة أينما حل هو بشخصه أو كتابه المعروف «الجامع المسند الصحيح المختصر فى أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأيامه» والمشهور عند الناس باسم «صحيح البخارى» الذى اكتسب سمعة كبيرة ألقت عليه قداسة لا ينافسه فيها سوى نص القرآن الكريم فقط.
لا ينكر أحد فضل كتاب الإمام أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى المسمى "صحيح البخارى" فهو واحد من أهم كتب التراث، وقد كان الإمام فيه حريصًا على الدقة، ولكنه فى النهاية جهد بشرى له ما له وعليه ما عليه.
هذا الجهد البشرى فهمه كبار العلماء المسلمين من أهل السنة والجماعة عبر القرون الإسلامية الطويلة، لذا سمحوا لأنفسهم بالاقتراب من صحيح البخارى وأشادوا بجهده واختلفوا معه، وأعلنوا فى كتبهم وفى دروسهم أنهم يختلفون مع كذا وكذا، ومع ذلك لم يكفرهم أحد ولم يخرجهم أحد من دين الله، بل ظل الأمر فى إطاره مجرد اختلاف فى العلم، فهل كانت الأجيال الماضية أكثر رحابة منا وأكثر تسامحا؟
من هو البخارى؟
اسمه بالكامل أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخارى، ولد فى بخارى إحدى مدن أوزبكستان الحالية عام 194 هجرية "الموافق 810م"، وحصل على مكانته بسبب جمعه للحديث النبوى، وتصنيفه لأهم كتاب فيه والذى يعتمد عليه أهل السنة بصورة أساسية فى كل حياتهم ويعتبرونه الكتاب الأتم والأشمل للسيرة النبوية.
لماذا نقدس البخارى؟
بالطبع لا يختلف أحد على قيمة الإمام البخارى فى التاريخ الإسلامى خاصة عند أهل السنة والجماعة، وحتى على المستوى الشخصى، فالكتب التى تناولت سيرة الرجل تتحدث عن تدينه وورعه وزهده، لكن مع الوقت تم تعظيم كل هذه الأشياء حتى أحاطت بالرجل وبآثاره هالة مقدسة، وصار نقد الكتاب أو صاحبه أو حتى إبداء بعض الاعتراض على معنى أو سند داخل آلاف الأحاديث التى اشتملها الصحيح يعد أمرًا من الموبقات فى الدين ومن الكبائر وكل من أقدم عليه متهم فى دينه موصوم بالإلحاد والزندقة، وهو اتهام ورد بالنص فى عديد من كتب السلفيين ضد من تكلم حتى لو فى حديث واحد من صحيح البخارى.
واتخذ تقديس البخارى وكتابه أشكالا شتى منها ما وصل إلى حد العصمة، وأن نقده بمثابة نقد للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ولدرجة أن البعض كانوا يستأجرون رجالاً يقرأون الأحاديث النبوية فى كتاب الإمام البخارى استجلابا للبركات السماوية تمامًا مثلما يفعل الناس مع القرآن الكريم، ومن ذلك ما قال به القاسمى فى كتابه "قواعد التحديث" حيث ذكر أن "صحيح البخارى عدل القرآن، إذ لو قرئ هذا الكتاب بدار فى زمن شاع فيه الوباء والطاعون لكان أهله فى مأمن من المرض، ولو اختتم أحد هذا الكتاب لنال ما نواه، ومن قرأه فى واقعة أو مصيبة لم يخرج حتى ينجو منها، ولو حمله أحد معه فى سفر البحر لنجا هو والمركب من الغرق".
كما نقل عن أبى زيد المروزى أنه قال: كنت نائمًا بين الركن والمقام فرأيت النبى -صلى الله عليه وآله- فى المنام، فقال لى: يا أبا زيد، إلى متى تدرس كتاب الشافعى ولا تدرس كتابى؟ فقلت: يا رسول الله، وما كتابك؟ قال: جامع محمد بن إسماعيل البخارى.
وكان العصر المملوكى صاحب الحظ الأوفر فى تقديس البخارى، وتحويله إلى أصل كل شىء حتى فى علاقته بتطبيق الشريعة السنية فى العصر المملوكى الذى كان يتم بقضاء القضاة الأربعة.
الأمة لم تجمع على صحيح البخارى
البخارى وصحيحه يحظيان بشعبية كبرى عند أهل السنة والجماعة لكن الأمة تشمل شيعة أيضًا هؤلاء الشيعة ينتقدون الإمام البخارى فى مئات المواضع، وحتى أهل السنة أنفسهم لا يجمعون، لأن الجمع كلمة من الصعب تحققها، حسب العلماء فى جميع المسائل لا يكاد يصح إجماع، لذا فقد انتقد كبار علماء السنة والجماعة صحيح البخارى وصحيح مسلم عبر القرون الماضية.
بدء انتقاد البخارى.. المعاصرون للإمام
بدأ انتقاد الإمام البخارى مبكرا جدا، بعدما بدأت شهرته تتسع وبدأ الناس يعرفونه ويعرفون علمه، وبعد انتهاء رحلته لطلب العلم فى مكة وبغداد ومصر وغيرها من البلاد صار له مجلس أينما حل أو ذهب، وصار ما يقدمه من العلم معروفًا وبدأ الناس ينتبهون إلى قوله، وذات مرة قرر الإمام الذهاب إلى «نيسابور» فى عام 250 هجرية وظل هناك قرابة 5 سنوات وهناك بدأت، ما أطلق عليه الجميع، «محنة البخارى».. فما الذى حدث؟
وصل البخارى إلى «نيسابور» واستقبله الناس بحفاوة بالغة فاستقر فى المدينة، ويبدو أن الإمام تعب من الترحال وقرر أن يظل فترة طويلة هناك، لكن فى الأفق كانت لا تزال القضية الشهيرة فى التاريخ الإسلامى المسماة «قضية خلق القرآن» موجودة نوعًا ما، فرغم ضعف تراجع امتحان العلماء فى هذا الأمر فى زمن الخليفة العباسى المتوكل إلا أن بعض العلماء كانوا لا يزالون يختبرون بعضهم البعض فيها.. وهذا ما حدث مع الإمام البخارى.
قضية خلق القرآن
فكرة «خلق القرآن» انتشرت فى عهد الخليفة العباسى المأمون وكان أصحابها «المعتزلة»، وهى ببساطة تنطلق من فكرة «أن القرآن مخلوق وكلام الله مخلوق» وبعدما اقتنع الخليفة المأمون بهذا الرأى طالب بنشره فى ربوع الدولة وعزل كل قاضٍ لا يؤمن به، وهو ما لقى معارضة البعض مثل الإمام أحمد بن حنبل.
ثم التبس على الناس الأمر فتوقف البعض فى المسألة، وقال البعض الآخر إن لفظنا بالقرآن مخلوق، وكان أول من قال بذلك هو الفقيه الحسين الكرابيسى توفى عام 248 هجرية، فأنكر عليه الإمام أحمد بن حنبل الذى توفى 241 هجرية، ذلك واعتبره من قبيل البدع، ورآه سبيلًا للتجهم والاعتزال، وقال الإمام أحمد: من قال القرآن مخلوق فهو جهمى، ومن قال: القرآن كلام الله ولا يقول: غير مخلوق ولا مخلوق فهو واقفى، ومن قال لفظى بالقرآن مخلوق فهو مبتدع.
محمد بن يحيى الذهلى توفى «258 هجرية»
كان محمد بن يحيى الذهلى عالم نيسابور الأشهر حتى مجىء البخارى لزيارة المدينة، ولما استقبله الناس بحفاوة بالغة، قرر المقام فى المدينة، وصار مجلسه أكبر مجلس علم فيها، فأثار ذلك غيرة الشيخ الذهلى فبعث من سأل البخارى عن مسألة خلق القرآن، وهل اللفظ مخلوق أم لا؟
حاول البخارى الهروب من هذه المسألة، لكنه لم يستطع، فاضطر للإجابة بأن كلامنا مخلوق، ومنها استنبط «الذهلى» أن البخارى يقول بالتلفظ، فاتهمه فى دينه، وظل يشنع عليه حتى أخرجه من المدينة، فخرج ولم يشيعه سوى عدد قليل من الناس.
لم يكن الأمر سهلًا ولم يعد الناس يلتفون حول البخارى مثلما كانوا فى البداية، فبعدما خرج من «نيسابور» سار ناحية «مرو»، يقول كتاب «تقييد المهمل وتمييز المشكل» لأبى على الغسانى، لما قدم البخارى «مرو» استقبله أحمد بن سيار فيمن استقبله، فقال له أحمد بن سيار: يا أبا عبدالله، نحن لا نخالفك فيما تقول، ولكن العامة لا تحتمل ذا منك، فقال: إنى أخشى النار، أُسأل عن شىء أعلمه حقًا أن أقول غيره، فانصرف عنه أحمد سيار».
ولم ينته الأمر عند ذلك، فعندما فكر الإمام فى الذهاب إلى وطنه «بخارى» عانى الأمرين أيضًا، يقول كتاب «تقييد المهمل» لما قدم أبو عبدالله – يقصد الإمام البخارى – بخارى نصبت له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله عامة أهل البلد، حتى لم يبق مذكورًا إلا وقد استقبله، ونثر عليه الدراهم والدنانير والسكر الكثير، وبقى بها أيامًا، فكتب بعد ذلك محمد بن يحيى الذهلى إلى خالد بن أحمد، أمير بخارى، فقال:
«إن هذا الرجل – يقصد البخارى – يظهر خلاف السنة» فقرأ الأمير كتابه على أهل بخارى، فقالوا: لا نفارقه، فأمره الأمير بالخروج عن البلد، فخرج.
الإمام أبو حاتم الرازى توفى (277 هـ)
وصل الأمر ببعض كبار الشيوخ المتخصصين فى علم الحديث إلى تجريح الشيخ البخارى بشخصه واعتباره مجروحًا متروك الحديث، فقد أورد الذهبى فى كتابه «سير أعلام النبلاء» الجزء الثانى عشر «قال عبدالرحمن بن أبى حاتم فى «الجرح والتعديل» قدم محمد بن إسماعيل «البخارى» الرى سنة خمسين ومائتين، وسمع منه أبى «يقصد أبا حاتم الرازى» وأبو زرعة، وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق».
ليس هذا فقط بل إن «أبا حاتم» انتقد بعض أحاديث البخارى وبلغة أهل الحديث «أعلها» ووصل عدد هذه الأحاديث إلى 6 أحاديث نضرب مثلا بأحدها:
قال ابن أبى حاتم: سألت أبى عن حديث رواه ابن المبارك، عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن المقدام بن معدى كرب، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال «كيلوا طعامكم، يبارك لكم فيه».
قال أبى: رواه «بقية» عن بجير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المقدام، عن النبى صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل بينهما جبير ابن نفير، قلت لأبى: أيهما الصحيح؟ قال: حديث ثور بن يزيد، حيث زاد رجلًا.
قال البخارى: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا الوليد، عن ثور، عن خالد ابن معدان، عن المقدام بن معدى كرب رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال «كيلو طعامكم يبارك لكم».
ووجه المخالفة أنه تبين من خلال تخريج الطريقين عند «أبى حاتم» أن الطريق الثانية فيها زيادة راو هو «جبير بن نفير» بين «خالد بن معدان» و«المقدام بن معدى كرب» وقد رجح أبو حاتم هذه الزيادة عندما سأله ابنه بقوله: أيهما الصحيح؟ فقال: حديث ثور بن يزيد، حيث زاد رجلًا، هنا خالف البخارى أبا حاتم فى هذا الحديث، فرواه فى صحيحه من غير هذه الزيادة.
أبو زرعة الرازى توفى (264هـ)
يقول كتاب «أضواء على الصحيحين» للشيخ محمد صادق النجمى، يعد أبو زرعة من حفاظ الحديث وعلم من أعلام علم الرجال والعلوم الأخرى، وكان أبو زرعة بمكانته العلمية هذه ينتقد مسلم ونظائره واعتبرهم متظاهرين بالحديث ومتاجرين به، وكان يقول بأن بعض أحاديث صحيح مسلم ليست بصحيحة.
ونقل عن سعيد بن عمرو: شهدت أبا زرعة الرازى يذكر كتاب الصحيح الذى ألفه مسلم بن الحجاج ثم المصوغ على مثاله - صحيح البخارى، فقال لى أبو زرعة: هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شيئًا يتشوفون به، ألفوا كتابًا لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رئاسة قبل وقتها، وأتاه ذات يوم - وأنا شاهد - رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم فجعل ينظر فيه فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال أبو زرعة: ما أبعد هذا من الصحيح يُدخل فى كتابه أسباط بن نصر، ثم رأى فى كتابه قطن بن نصير فقال لى: وهذا أطم من الأول.
وذكر «الذهبى» قصة أبى زرعة ولكنه أتى بكلمة يتسوقون - يتاجرون - بدلا عن كلمة يتشوفون – يتظاهرون.
موت الإمام البخارى
بالطبع لم يمر كل ذلك بسلام على الإمام البخارى فقد كانت النتيجة أن مات غريبا على طريق سمرقند فى عام 256 هجرية بعدما رفضت المدن الإسلامية استقباله وبعدما رفع يديه إلى السماء وابتهل إلى الله «اللهم إنى قد ضاقت علىَّ الأرضُ بما رحبت، فاقبضنى إليك».
رحل الإمام البخارى فى عام 256 هجرية وترك خلفه إرثًا مهمًا لم يتجاهله أحد، ففى صحيحه واعتمادا على كلام ابن حجر العسقلانى «إنه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات (7397) حديثًا، والخالص من ذلك بلا تكرار (2602) حديثًا، وإذا أضيف إلى ذلك المتون المعلقة المرفوعة وهى (159) حديثا فمجموع ذلك (2761)، وعدد أحاديثه بالمكرر والتعليقات والمتابعات واختلاف الروايات (9082) حديثًا، وهنا وجبت الإشارة إلى أن ما تعرض من نقد فى هذه الأحاديث عدد قليل، لكنه إشارة مهمة إلى أن هذا الكتاب «بشرى» كتبه بشر ويجب أن نواصل قراءته كذلك، ولنا فيمن سبقنا أسوة.
فقد جاء بعد الإمام البخارى جيل من المحدثين العارفين بقيمته وقيمة كتابه، تعاملوا معه بصفته كتابًا خط بيد بشر، لذا اختلفوا معه فى بعض ما ورد فى صحيحه، ومن هؤلاء العلماء:
الإمام مسلم «ت261»
يعرف أهل الحديث والباحثون فى التراث الإسلامى أن الإمام «مسلم بن الحجاج» صاحب الكتاب الشهير فى علم الحديث «صحيح مسلم» الذى عاش فى الفترة بين عامى (206 – 261 هـ) هو أنجب تلاميذ الإمام البخارى وأنه لم يتخل عنه فى محنته لكنه اختلف معه فى منهج البحث.
يقول ابن خلكان فى كتابه «وفيات الأعيان» فى الجزء الرابع، وقال عبدالله محمد بن يعقوب الحافظ: لما استوطن البخارى نيسابور أكثر «مسلم» من الاختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخارى ما وقع فى مسألة اللفظ نادى عليه ومنع الناس من الاختلاف إليه حتى هُجِّر وخرج من نيسابور، فى تلك المحنة قطعه أكثر الناس غير «مسلم»، فإنه لم يتخلف عن زيارته، فنُقل إلى محمد بن يحيى أن «مسلم بن الحجاج» على مذهبه قديمًا وحديثًا، وأنه عوتب على ذلك بالحجاز والعراق ولم يرجع عنه.
ومع ذلك فقد اختلف منهج الإمام مسلم عن بعض سمات منهج الإمام البخارى ومن ذلك:
الموقوفات فى صحيح مسلم
المقصود بالحديث الموقوف، هو ما يروى عن الصحابة من أقوالهم أو أفعالهم ونحوها فيوقف عليهم ولا يتجاوز به إلى رسول الله.
والموقوفات عند «مسلم» أقل من التى وردت فى «صحيح البخارى» ثم إن معظمها أوردها الإمام مسلم فى مقدمة صحيحه، لا فى أصله، وغالب ما أورده من الموقوف يتعلق بمسائل رواية الحديث، ومعظم ما أورده خارج المقدمة يتعلق بمناسبات ورود أحاديث مرفوعة.
وقد جمع الحافظ ابن حجر موقوفات مسلم فى جزء صغير سماه: «الوقوف على ما فى صحيح مسلم من الموقوف».
منهجه فى العناية بالألفاظ
كان الإمام مسلم يتحرّى الدقة الشديدة فى مروياته، فكان يذكرها كما رواها وسمعها، ولم يكن يقطِّع الأحاديث، ولم يكن يتصرَّف فى الألفاظ، إضافة إلى ذلك فإنه كان يفتِّش عن أسماء من لم يسمُّوا فى الأحاديث، ويهتمُّ بإيراد أسمائهم.
مثال ذلك ما أورده فى صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِى امْرَأَةٌ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ». فَقُلْتُ امْرَأَةٌ لاَ تَنَامُ تُصَلِّى، قَالَ: «عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَفِى حَدِيثِ أَبِى أُسَامَةَ: أَنَّهَا امْرَأَةٌ مِنْ بَنى أَسَدٍ، ثم ذكر فى رواية بعدها أنها: الْحَوْلاَءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى».
وهذا يدل على عنايته الشديدة بمثل هذه الأمور، بينما لم يكن الإمام البخارى يولِى عناية كبيرة بمثل ذلك.
ونقلا عن كتاب «صحيح البخارى نهاية أسطورة» للباحث المغربى رشيد أيلال والذى كتب تحت عنوان «انتقاد مسلم لبعض ما أخرج البخارى» يقول: فمن ذلك حديث الإسراء الذى رواه شريك بن عبد الله فقد أعله مسلم بقوله «وقدم فيه شيئا وآخر وزاد ونقص».
ومنها عدم احتجاجه برواة احتج بهم البخارى كعكرمة مولى ابن العباس وآخرين، ومنها انتقاده لشرط «البخارى» فى السماع بين المتعاصرين، وفى ذلك يقول أبو الوليد الباجى «توفى 474 هـ» فى كتابه «التعديل والتجريح» الجزء الأول «وقد أخرج البخارى أحاديث اعتقد صحتها، تركها مسلم لما اعتقد فيها غير ذلك، وأخرج مسلم أحاديث اعتقد صحتها، تركها البخارى لما اعتقد فيها غير معتقده».
انتقاد الترمذى توفى 279 هـ
المعروف أن الإمام الترمذى هو صاحب «سنن الترمذى» أحد كتب الحديث الستة المشهورين.
وهو هنا ينتقد حديثًا أخرجه البخارى وهو حديث ابن مسعود فى الاستنجاء بالحجارة يقول فيه حدثنا أبو نعيم، قال حدثنا زهير عن أبى إسحاق قال، ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبدالرحمن بن الأسود عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول «ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرنى أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال هذا ركس».
أعله الترمذى بالاضطراب فقال فى سننه تحت عنوان «كتاب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء فى الاستنجاء بالحجرين»:
قال أبو عيسى، وهكذا روى قيس بن الربيع هذا الحديث عن أبى إسحق عن أبى عبيدة عن عبد الله، نحو حديث إسرائيل، وروى معمر وعمار بن رزيق عن أبى إسحق عن علقمة عن عبد الله، وروى زهير عن أبى إسحق عن عبدالرحمن بن الأسود عن أبيه الأسود بن يزيد عن عبدالله، وروى زكريا بن أبى زائدة عن أبى إسحق عن عبدالرحمن بن يزيد عن الأسود بن يزيد عن عبد الله وهذا حديث فيه اضطراب.
أبو الفضل ابن عمار الشهيد توفى «317 هـ»
هو الحافظ أبو الفضل بن عمار الشهيد، قال عنه الإمام الذهبى فى «سير أعلام النبلاء» الإمام الحافظ الناقد المجود أبو الفضل محمد بن أبى الحسين أحمد بن محمد بن عمار الجارودى الهروى الشهيد.
وابن عمار هذا صاحب فضل حقيقى على التراث الإسلامى، وذلك لأنه يعد أقدم من ألف كتابًا مختصًا فى نقد الصحيح، فقد جمع الأحاديث التى انتقدها على الإمام مسلم فى جزء «علل أحاديث فى كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج»، وقد أعلَّ ابن عمار فى كتابه هذا ستةً وثلاثين حديثا أخرجها مسلم فى صحيحه.
ورغم أن عمله كان مركزًا على صحيح الإمام مسلم لكنه أرسى لمن جاء بعده كما سنرى القدرة على الانتقاد لما يسمى الكتب الصحيحة.
أبو جعفر العقيلى توفى «322 هـ»
قال عنه العلماء كان العقيلى جليل القدر عظيم الخطر وكان كثير التصانيف، ومن تصانيفه «الضعفاء الكبير».
وفى كتابه ضعّف العقيلى عددا من أحاديث صحيح البخارى، وعلى سبيل المثال حديث همام بن يحيى فى الأبرص، وفيه:
«عن همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة، حدثنى عبدالرحمن بن أبى عمرة أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله يقول: إن ثلاثة فى بنى إسرائيل: أبرص، وأعمى، وأقرع، بدا الله أن يبتليهم، فبعث الله إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال له: أى شىء أحب إليك؟
فقال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرنى الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطى لونا حسنا وجلدا حسنا.
فقال: أى المال أحب إليك؟
قال: الإبل، أو: قال البقر - هو شك فى ذلك أن الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: البقر - فأعطى ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها.
قال: وأتى الأقرع فقال له: أى شىء أحب إليك؟
قال: شعر حسن، ويذهب عنى هذا، قد قذرنى الناس، فمسحه فذهب، وأعطى شعرا حسنا.
قال: فأى المال أحب إليك؟
قال: البقر، فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها.
قال: وأتى الأعمى فقال: أى شىء أحب إليك؟
قال: يرد الله إلى بصرى فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره.
قال: فأى المال أحب إليك؟
قال: الغنم فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
ثم إنه أتى الأبرص فى صورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطعت بى الحبال فى سفرى، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذى أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال بعيرا أتبلغ عليه فى سفرى.
فقال له: إن الحقوق كثيرة.
فقال له: كأنى أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله عز وجل.
فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع فى صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأعمى فى صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، وتقطعت بى الحبال فى سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذى ردَّ عليك بصرك، شاة أتبلغ بها فى سفرى.
فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلى بصرى، وفقيرا فقد أغنانى، فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشىء أخذته لله عز وجل.
فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضى الله عنك، وسخط على صاحبيك».
هذا الحديث رواه أبو جعفر العقيلى فى الجزء الرابع من «الضعفاء الكبير» ثم ضعّفه واعتبره من كلام عبيد بن عمير، وسبب تضعيف العقيلى للحديث هو أن «همام بن يحيى» هذا ضعيف الحفظ وليس الحديث عند أحمد بن حنبل، مما يدل على تضعيفه له، بل ليس عند أصحاب السنن، والحديث رواه البخارى ومسلم من طريق «همام» عن إسحاق، عن ابن أبى عمرة، عن أبى هريرة مرفوعا.
أبو بكر الجصاص توفى (370هـ)
والإمام أبو بكر الجصاص صاحب «أحكام القرآن» له شأن فى زمانه وبين أقرانه، وقد أفردتْ له كتب التراجم مساحة وافية للتّعريف به، وبشيوخه وتلاميذه وبنتاجه العلمى.
وردًا على حديث «سحر الرسول» قال أبو بكر الجصاص الحنفى فى كتابه أحكام القرآن «وهذا الحديث من وضع الملحدين» قال وضعه ملاحدة كفار وزنادقة فى البخارى ومسلم، وللأسف جازت الحيلة على البخارى ومسلم فصدقا هذا الحديث وجعلاه فى صحيحهما.
أبو بكر الإسماعيلى توفى «371 هـ»
هو أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الجرجانى الإسماعيلى الشافعى «277 هـ - 371 هـ» أحد كبار شيوخ الشافعية فى عصره، له مستخرج عن الصحيحين يطلق عليه «صحيح الإسماعيلى» انتقد فيه بعض أحاديث البخارى:
أخرج البخارى فى «صحيحه» حديث أبى هريرة يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، يقول «وعن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصنى؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتنى أن لا تخزنى يوم يبعثون، فأى خزى أخزى من أبى الأبعد، فيقول الله تعالى: إنى حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال لإبراهيم: ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى فى النار».
وقد طعن فيه «الإسماعيلى» قال ابن حجر فى «فتح البارى» الجزء الثامن «وقد استشكل الإسماعيلى هذا الحديث من أصله، وطعن فى صحته، فقال بعد أن أخرجه «هذا خبر فى صحته نظر، من جهة أن إبراهيم علم أن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما صار لأبيه خزيا، مع علمه بذلك».
وفى موضع آخر روى البخارى ومسلم عن قتادة بن دعامة رحمه الله أنه قال: سألت أنس بن مالك رضى الله عنه مَن جمع القرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربعة كلهم من الأنصار: أبى بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قلت: مَن أبو زيد؟ قال: أحد عمومتى.
ورواه البخارى بلفظ مختلف من طريق عبدالله بن المثنى بن عبدالله بن أنس بن مالك عن ثابت البُنانى وثمامة بن عبدالله بن أنس عن أنس أنه قال: مات النبى صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
قوله فى الرواية الثانية «أبو الدرداء» بدلا من أُبى بن كعب يبدو أنه من أوهام عبد الله بن المثنى، وهذا وثقه جماعة وضعفه جماعة، وقال فيه ابن حجر: صدوق كثير الغلط.
قال ابن حجر فى فتح البارى، قال: الإسماعيلى: هذان الحديثان مختلفان، ولا يجوزان فى الصحيح مع تباينهما، بل الصحيح أحدهما.
الإمام الدارقطنى أعلَّ 210 أحاديث
يتحرك بنا التاريخ الإسلامى إلى الأمام وصولا إلى الإمام الدارقطنى المتوفى عام 385 هجرية، واسمه على بن عمر بن أحمد بن مهدى أبو الحسن الدارقطنى البغدادى، وكان يلقب بأمير المؤمنين فى الحديث.
قال فيه الخطيب البغدادى فى «تاريخ بغداد» كان فريد عصره، وقريع دهره، ونسيج وحده، وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلل الحديث وأسماء الرجال وأحوال الرواة، مع الصدق والأمانة والثقة والعدالة.
ووصفه القاضى أبو الطيب الطبرى بقوله: «كان الدارقطنى أمير المؤمنين فى الحديث»، ووصفه الذهبى فى «سير أعلام النبلاء» بقوله: «الإمام الحافظ المجود، شيخ الإسلام، علم الجهابذة».
لذا فإن ما يقوله الإمام الدارقطنى موضع ثقة، وله مع أحاديث الإمام البخارى وقفة سنذكرها:
مصنفات الدارقطنى فى نقد البخارى
ذكر الدارقطنى انتقاداته فى ثلاثة مصنفات، أحدها هو «التتبع» قال فى أوله «ابتداء ذكر أحاديث معلولة اشتمل عليها كتاب البخارى ومسلم أو أحدهما، بينت عللها والصواب منها».
والثانى: هو جزء «بيان أحاديث أودعها البخارى رحمه الله كتابه الصحيح»، قال فى أوله «ما حضرنى ذكره من الأحاديث التى خرَّجها محمد بن إسماعيل البخارى رحمه الله فى كتابه «السنن الصحاح» عنده، مما اختلف فى أسانيد بعضها وفى إرسال بعضها وفى إيصالها وفى عدالة ناقليها وجرحهم.
والثالث: انتقادات متفرقة فى كتابه «العلل الواردة فى الأحاديث النبوية»، وقد توسع فيه فى ذكر علل الأحاديث.
عدد الأحاديث التى أعلها الدارقطنى
عدد الأحاديث التى أعلَّها الدارقطنى فى الصحيحين على ما أحصاه الحافظ ابن حجر يبلغ «مائتى حديث وعشرة» المتفق عليه منها اثنان وثلاثون، وانفرد البخارى بثمانية وسبعين، ومسلم بمائة.
أحاديث أعلَّها الدارقطنى
ومن الأحاديث التى أعلها الإمام الدارقطنى على الصحيحين البخارى ومسلم:
روى البخارى ومسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن حُميد عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ثمَر التمْر حتى يزهو، فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك؟!
وروى البخارى ومسلم من طريق مالك، وهو فى الموطأ، عن حُميد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى، فقيل له: وما تزهى؟ قال: حتى تحمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت إذا منع الله الثمرة، بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟!»
وروى مسلم عن محمد بن عباد عن عبد العزيز بن محمد الدَرَاوَرْدى عن حميد عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه ؟!»
وعلق الدار قطنى فى التتبع على هذه الروايات فقال:
أخرجا جميعا حديث مالك عن حميد عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى، قيل: وما تزهى؟ قال: حتى تحمر. قال صلى الله عليه وسلم: «أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟!»، وقد خالف مالكًا جماعة، منهم إسماعيل بن جعفر وابن المبارك وهشيم ومروان ويزيد بن هارون وغيرهم، قالوا فيه: قال أنس: أرأيت إن منع الله الثمرة.
وأخرجا أيضا حديث إسماعيل بن جعفر عن حُميد، وقد فصل كلام أنس من كلام النبى صلى الله عليه وسلم، وأخرج مسلم عن ابن عباد عن الدراوردى عن حميد عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «إن لم يثمرها الله فبم يستحل مال أخيه؟!»، وهذا وهِم فيه ابن عباد على الدراوردى عن حميد حين سمعه ابن عباد منه، لأن إبراهيم بن حمزة رواه عن الدراوردى عن حميد عن أنس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تزهو. قلنا لأنس: وما تزهو؟. قال: تحمر، أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يستحل مال أخيه؟!. وهو الصواب، فأما ابن عباد فإنه أسقط كلام النبى صلى الله عليه وسلم، وأتى بكلام أنس، ورفعه عن النبى صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ».
حديث آخر أعله الدارقطنى
روى البخارى عن كعب بن مالك رضى الله عنه، أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع، فأبصرتْ جارية لهم بشاة من غنمهم موتًا، فكسرتْ حجَرا فذبحتْها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبى صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بأكلها.
ورواه البخارى من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن كعب بن مالك عن أبيه، ومن طريق جويرية بن أسماء عن نافع عن رجل من بنى سلمة، أن جارية لكعب بن مالك، ومن طريق مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ أن جارية لكعب بن مالك، وهذا اضطراب فى الإسناد.
أعله الدارقطنى فى العلل، حيث رجح أن طريق جويرية بن أسماء الذى فيه راوٍ مبهم هو المحفوظ، وهذا يعنى أن السند ضعيف، وأعله كذلك فى الجزء المسمى بـ«التتبع» وقال عن الاختلاف فى سنده «هذا اختلاف بيِّن»، ثم قال: «قيل فيه عن نافع عن ابن عمر، ولا يصح، والاختلاف فيه كثير».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة