نواصل إلقاء الضوء على المشروع الفكرى للمفكر المصرى الكبير زكى نجيب محمود (1905-1993) الذى يعد واحدا ممن تركوا أثرا كبيرا فى الفكر العربى، ونتوقف اليوم مع كتابه "فى حياتنا العقلية" والذى صدر فى عام 1979.
يقول الكتاب تحت عنوان "من هو المثقف الثورى":
استوقف نظرى فيما قرأت منذ قريب، قولان مختلفان، لكنهما يلتقيان عند نقطة واحدة، فيها من الخصوبة والثراء ما يوحى للفكر المتأمل بمعانٍ كثيرةٍ غزيرة، من بينها معنًى قد يكون هو الفصل الحاسم عند تحديدنا للمثقف الثورى من ذا يكون؟ فمتى يكون المثقف مثقفًا وكفى، ومتى يكون مثقفًا وثوريًّا معًا؟ أما أحد القولين فقد صادفته خلال قراءتى لديوان ابن عربى "ترجمان الأشواق" الذى تولى فيه ابن عربى بنفسه شرح شعره، ليبين مراميه فى الرموز التى لجأ إلى استخدامها فى ذلك الشعر، وقد أورد فى غضون هذا الشرح حديثًا للنبى عليه السلام يقول فيه: "ما ابتُلى أحد من الأنبياء بمثل ما ابتليت" مشيرًا بذلك — فيما يقول ابن عربى — إلى رجوعه من حالة الرؤية — رؤية الحق — إلى دنيا الناس ليخاطب فيهم من ضلَّ ليهديه سواء السبيل، أى أنَّ رؤية الحق لم تكن عنده هى كل الطريق، وإنما يكملها أن يغير الحياة على هذه الأرض بما يجعلها تعلو إلى الكمال الذى رأى.
وأما القول الثانى فقد وجدته عند محمد إقبال، حينما عاودت قراءة كتابه "تجديد التفكير الدينى فى الإسلام" "إذ وجدته يستهل الفصل الخامس من هذا الكتاب بهذه العبارة: "صعد محمد النبى العربى إلى السموات العُلا، ثم رجع إلى الأرض، قسمًا بربى لو بلغت هذا المقام لَمَا عدت أبدًا"، وهى عبارة قالها — فيما يحكى محمد إقبال — ولى مسلم عظيم، هو عبد القدوس الجنجوهى، ثم يمضى إقبال فى القول بأنه من العسير — فى ظنه — أن نجد فى الأدب الصوفى كله ما يفصح فى عبارةٍ واحدةٍ عن مثل هذا الإدراك العميق للفرق السيكولوجى بين نمطين مختلفين من أنماط الوعى: أما أحدهما فهو النمط الذى تتميز به حالة النبوة، وأما الآخر فهو ذلك الذى تتميز به حالة التصوف، ففى هذه الحالة الثانية — حالة التصوف — ترى المتصوف إذا ما بلغ شهود الحق، تمنى ألا يعود إلى دنيا الناس، وحتى إذا هو عاد — كما لا بُدَّ له أن يعود — جاءت عودته غير ذات نفع كبير للناس، لأنه سينحصر فى ذات نفسه، منتشيًا بما قد شهد، ولا عليه بعد ذلك أن تتغير أوضاع الحياة من حوله أو لا تتغير، وأما فى حالة النبوة فالأمر على خلاف ذلك؛ لأن مشاهدة الحق يتلوها رجوع إلى الناس فى دنياهم، لا ليقف النبى مما يجرى حوله موقفًا سلبيًّا غير مكترث، بل ليغامر فيه بما يغيره التغيير الذى يخلصه من أوجه الفساد، ويصعد به نحو مثال الكمال كما ارتسم فى إدراكه الواعى لحظة الشهود.
إن إدراك الحق عند الصوفى هو غاية يوقف عندها، وأما عند النبى فهو بمثابة يقظة تصحو بها كوامن نفسه، حتى لتتحول تلك الكوامن بين جوانحه إلى قوى تهز أركان العالم هزًّا ليستفيق من سباته، فيبدل قيمًا بالية بقيم جديدة، فكأنما عودة النبى من حالة الشهود إلى حالة الفعل، هى بمثابة مقياس يقيس شيئين فى وقت واحد: يقيس مدى ما تنطوى عليه المُثل العليا التى شوهدت فى حالة الرؤية الروحية، من قدرة على التطبيق والإصلاح، ثم يقيس مدى ما تستطيعه الإرادة القوية والعزيمة الماضية من مواجهة الصعاب حتى تزيل حياة فسدت لتقيم مكانها حياة جديدة منشودة.
هذان هما القولان اللذان صادفتهما فيما قرأت منذ قريب، واللذان يلتقيان عند نقطة واحدة مشتركة، هى التفرقة بين رجلين: رجل يرى الحق فتكفيه الرؤية، ورجل يرى الحق فلا يستريح له جنب حتى يغير الحياة وفق ما رأى.
ولئن كنت قد وجدت هذه التفرقة مقصورة على التمييز بين حالتى التصوف والنبوة، فلست أرى ما يمنع من التوسع فى التطبيق، بحيث نجعلها تفرقة بين المثقف الذى ينعم بثقافته ثم لا يغير من مجرى الحياة شيئًا، والمثقف الذى لا ينعم بثقافته إلا إذا استخدمها أداة لتغيير الحياة من حوله، وفى هذه الحالة الثانية، يكون المثقف مثقفًا وثائرًا معًا.
لكن هذه التفرقة تحتاج إلى مزيدٍ من التحديد؛ لأن "الثقافة" كلمة خلقها من خلقها من صُناع الكلام، لتنقلب على خالقها نفسه شيطانًا مريدًا تغالبه فتغلبه، فهو هو الذى صنعها، لكنه بعد صنعها عجز عن تحديدها وتقييدها، وكلما حاول، وحاول الناس معه، أن يحددوها ويقيدوها، اتسعت فيها رقعة الغموض واشتدَّ الظلام، كأنها المارد الذى انبثق من قمقمه لينتشر دخانًا يملأ صفحة السماء قتامة وسوادًا، لكننا — لكى نمضى فى حديثنا الراهن — سنفرض أنها كلمة يقصد بها حصيلة العلم والمعرفة التى حصلها الإنسان بالموهبة أو بالكسب أو بهما معًا؛ وعلى هذا الاعتبار يكون عالم الرياضة وعالم الكيمياء وغيرهما من رجال العلم أفرادًا من زمرة المثقفين، كما يكون المؤرخ والشاعر والفيلسوف، فهل يجوز لنا أن نقارن بين عالمين من علماء الرياضة، أحدهما درس الرياضة ولم يطبقها فى بناء الجسور، والآخر درسها ثم طبقها، أقول هل يجوز لنا أن نقارن بين هذين العالمين، فندعو ثانيهما دون أولهما بأنه مثقف ثورى لأنه طبق ما قد تعلم، بمثل ما نقارن بين فيلسوفين أو عالمين من علماء الاجتماع أو الاقتصاد، أحدهما عرف واكتفى، والثانى عرف وطبق معرفته على مشكلات الحياة الجارية ليحلها، فنَصِفُ هذا الثانى — دون الأول — بأنه مثقف وثورى معًا؟ أحسب أن ثمة اختلافًا ظاهرًا بين الحالتين، حالة الرجلين من رجال الرياضة والعلوم الطبيعية، وحالة الرجلين من رجال العلوم الإنسانية، بحيث تكون صفة "الثورية" حين تضاف إلى المثقف، أكثر انطباقًا على ميدان العلوم الإنسانية منها على ميدان العلوم الطبيعية، فإذا صحَّ هذا، كانت التفرقة التى أسلفناها، لنميز بها بين "المثقف" المكتفى فى ذاته بثقافته، و"المثقف الثورى" الذى يجاوز ذاته بثقافته ليَمسَّ بها مجرى الحياة من حوله، تفرقة مقصورة — فى الأعم الأغلب — على أصحاب الثقافة الإنسانية؛ لأنها هى التى تشتمل على القيم، والقيم هى التى يصيبها التغير حين يقال إن ثورة قامت وغيرت وجه الحياة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة