تحديات عدة يواجهها الرئيس الأمريكي جو بايدن لاستعادة زمام الأمور، على الساحة الدولية، في ظل متغيرات عميقة، لا تقتصر على المشهد العالمى، إثر صعود العديد من القوى الأخرى، التي من شأنها مزاحمة واشنطن على القمة، وإنما تضرب بجذورها في الداخل الأمريكي جراء حالة الانقسام غير المسبوق التي تشهدها أمريكا في المرحلة الراهنة، والتي تجلت في أبهى صورها مع خروج آلاف المحتجين، في مشهد ينم عن حالة من الغليان بين المواطنين، خاصة في أعقاب خروج الرئيس السابق دونالد ترامب من البيت الأبيض، بعد سنوات، نجح خلالها في إعادة هيكلة أولويات السياسة، سواء في الداخل أو الخارج، لتتمركز حول مصلحة المواطن، بعيدا عن النظريات التقليدية القائمة على النفوذ، وهو ما يعد بمثابة انقلاب صريح على الثوابت التي طالما أرستها الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
إلا أن حالة الغليان التي تهدد المكانة الأمريكية، ربما لا تقتصر على الداخل، وإنما تمتد إلى الخارج أيضا، في ظل رهان الإدارة الأمريكية الحالية على قدرتها على إعادة حشد الحلفاء خلفها، لتحقيق أهدافها الدولية، وخاصة ما يسمى بـ"المعسكر الغربى"، والذى كان منطلقا للقيادة الأمريكية للعالم، سواء في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إثر صعود واشنطن كأحد قطبى النظام العالمى مع الاتحاد السوفيتى، أو بعد ذلك بعقود، في أعقاب الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتى، والذى أسفر عن الهيمنة الأمريكية المطلقة على أساس صفقة تقوم في الأساس على تقديم المزايا التجارية والاقتصادية والأمنية للحلفاء في أوروبا الغربية، مقابل الدوران في فلك واشنطن، وهى الصفقة التي أفسدها ترامب، سواء بفرض التعريفات الجمركية على الواردات القادمة من دول القارة العجوز، أو السياسات التي من شأنها التشكيك في مستقبل التحالف الأمني، والذى يتجسد في حلف الناتو.
وعلى الرغم من التصريحات البراقة التي أطلقتها إدارة بايدن، بالعودة إلى العلاقة مع الحلفاء، تبقى العديد من التحديات التي قد تعوقها في المرحلة المقبلة، عن تحقيق هذا الهدف، أبرزها حالة التشكك التي انتابت الحلفاء، تجاه النوايا الأمريكية، ومدى التزام واشنطن بتعهداتها، تجاه الحلفاء، بعد انقلاب ترامب عليها في السنوات الماضية، والذى أسفر عن حالة من الانقسام، سواء فيما يتعلق بالولاء للحليف التاريخى، أو في مختلف المواقف الدولية الأخرى.
البحث عن بديل.. الشكوك تدفع أوروبا لسياسة "تنويع التحالفات"
ولعل السياسات الأمريكية في السنوات الماضية، كانت سببا في حالة أشبه بـ"الصدمة" لدى الحلفاء، وخاصة في دول أوروبا الغربية، في ظل حالة الاعتماد الكلى على الحليف الأمريكي، لتجد نفسها، بين ليلة وضحاها، "مجردة" من دعم واشنطن الاقتصادى، بينما تبقى الحماية الأمنية محل شك كبير، في ظل الضغوط التي فرضت عليهم، حول ضرورة دفع التزاماتهم المالية تجاه حلف الناتو، لضمان استمرارها، وهو ما يعنى أن مسألة الحماية لن تستمر كـ"منحة" أمريكية مدى الحياة، وبالتالي يمكن رفعها في أي لحظة في المستقبل.
علاقة ترامب بالحلفاء دفعتهم نحو البحث عن شركاء جدد
وهنا وجدت القوى الرئيسية الأوروبية في حاجة إلى بدائل، سواء اقتصادية أو امنية، مع الاحتفاظ بالعلاقة مع واشنطن، في إطار ما يمكن تسميته بسياسة "تنويع التحالفات"، عبر إيجاد شركاء جدد، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادى والتجارى، وهو ما يفسر انغماس دول القارة العجوز، في شراكات اقتصادية، مع قوى دولية، تضعها أمريكا في خانة "الخصوم"، وهو ما يبدو في مشاركة ألمانيا في مشروع "السيل الشمالى" الروسى، للحصول على الغاز، بالإضافة إلى توجه العديد من القوى الأوروبية نحو التعاون مع الصين، لتعويض الفراغ الناجم عن حالة "التخلي" الأمريكي.
وعلى الجانب الأمني، ظهرت الحاجة الملحة أمام دول القارة العجوز إلى الاعتماد على نفسها، بعيدا عن "الناتو"، تحسبا لـ"الغدر" الأمريكي المحتمل، وهو ما يبدو في دعوة أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل سنوات، بتأسيس ما أسماه بـ"الجيش الأوروبى الموحد"، حتى يتسنى للقارة الدفاع عن نفسها أمام أي تهديدات محتملة.
رؤى متباعدة.. صفحة جديدة مع خصوم الماضى
التوجهات الأوروبية الجديدة، والتي باتت متباعدة عن الرؤى الأمريكية، خلقت خلافات حول كيفية التعامل مع القضايا الدولية، حيث باتت المصلحة الخاصة بكل دولة، هي الحاكم الرئيسى للمواقف التي تتبناها، وهو ما يبدو بجلاء في الاستجابة "الخجولة"، من قبل القارة العجوز، للتوجه الأمريكي، تحت إدارة بايدن، لمعاداة روسيا، في محاولة لإعادة "بوصلة" الخصوم إلى مرحلة "ما قبل ترامب"، عبر مهادنة بكين على حساب موسكو، على خلفية قضية المعارض ألكسندر نافالنى، بينما حرصت على الاستمرار في التعاون معها فيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية المشتركة.
الصين وروسيا لم يعودا أبرز خصوم أوروبا
الموقف الأوروبى لا يبدو مختلفا فيما يتعلق بالصين، حيث تبقى القارة العجوز متمسكة بعلاقات معتدلة مع بكين، في ظل صعودها الاقتصادى، والذى يؤهلها لتكون شريكا تجاريا موثوقا به، بالإضافة إلى النجاح الكبير الذى حققته القوى الآسيوية في زيادة شعبيتها بين الشعوب الأوروبية، جراء الدعم الذى قدمته لهم، إبان ذروة تفشى كورونا، في العديد من الدول الأوروبية، لتخلق أبعادا جديدة للتعاون بينهما في السنوات الماضية، أصبحت الصين من خلالها قوى ربما لا يمكن الاستغناء عنها.
التنافس على القيادة.. انقسام أوروبا يعيق الاحتشاد وراء واشنطن
إلا أن أبرز التحديات التي باتت تواجه الولايات المتحدة، داخل دائرة المعسكر الغربى، هي حالة الانقسام داخل دول القارة، سواء فيما يتعلق بمواقفها من الاتحاد الأوروبى، على غرار الخلاف الناجم عن "بريكست" بين بريطانيا ومحيطها القارى، في ظل رغبة لندن على القيام بدور بارز في قيادة القارة من خارج التكتل القارى، عبر تكتلات أخرى، على غرار الناتو، والذى تسعى الحكومة البريطانية إلى تعزيز نفوذها داخله.
ماكرون ميركل وتنافس لقيادة الاتحاد الأوروبى
ولا تقتصر المنافسة على بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبى، حيث تمتد كذلك إلى داخل "أوروبا الموحدة"، وهو ما يبدو في رغبة فرنسا في انتزاع قيادة التكتل القارى من ألمانيا، والتي لعبت دور القائد للقارة خلال السنوات الماضية، هو الأمر الذى ربما تسعى إدارة بايدن إلى الرهان عليه في المرحلة المقبلة، وهو ما يبدو في حرص الرئيس بايدن على العودة إلى اتفاقية باريس المناخية، وهو وإن كان يهدف إلى التأكيد على الالتزام الأمريكي بالمعايير البيئية التي سبق وأن قطعتها على نفسها في سنوات ما قبل ترامب، إلا انه يحمل في طياته "مغازلة" غير مباشر للرئيس إيمانويل ماكرون، الطامح إلى القيادة، في ظل ارتباط اسم الاتفاقية بالعاصمة الفرنسية، وهو ما يعنى ارتباطها بالدور الفرنسي البارز في العالم.
التوجه الأمريكي نحو باريس تجلى بوضوح في محاولات واشنطن للعودة إلى الاتفاق النووي، عبر التنسيق مع الجانب الفرنسي، مما يساهم بصورة كبيرة في تحقيق التقارب في المرحلة المقبلة، والذى يمكن من خلاله إعادة حشد الحلفاء في أوروبا في المستقبل القريب، إلا أن حالة الانقسام سواء داخل الاتحاد الأوروبى أو خارجه ربما تعوق واشنطن من حشد المعسكر الغربى، وبالتالي قيادته نحو أهدافها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة