نواصل إلقاء الضوء على كتب المفكر الكبير زكى نجيب محمود (1905 – 1993) الذى يعد أبرز المفكرين المصريين والعرب، واليوم نتوقف عند كتاب "موقف من الميتافيزيقا" والذى صدر عام 1953.
ويقول زكى نجيب محمود فى المقدمة: تنعكس صورة العصر على أقلام الكُتَّاب والمفكرين بإحدى طريقتَين، فهؤلاء الكُتَّاب والمفكِّرون إما أن يصوِّروا واقع الحياة من حولهم تصويرًا أمينًا، بحيث يبدو على صفحات كتبهم وجهُ الحياة القائمة كما هو بملامحه ومعالمه وقَسَماته ولمحاته، أو أن يصوِّروا هذا الواقع بالثورة عليه ومحاولة قلب أوضاعه.
موقف من الميتافيزيقا
ويضيف: عندئذٍ يستطيع القارئ أن ينظر إلى صفحات الكتاب، لا ليرى وجه الحياة كما هو، بل ليستدلَّه استدلالًا من الصورة الكاملة التى خلقها صاحب الكتاب بفكره، ليُصْلِحَ بالكمال الذى رسمه بقلمه، نقصَ الحياة الشائعة التى يريد تقويمها وإصلاحها؛ فالصورة فى هذه الحالة الثانية لا تصوِّر الشبيه بشبيهه، بل تدل على الشيء بالإشارة إلى نقيضه، فلو كان الناس يعيشون — مثلًا — فى عصر تسوده القسوة والشدة والعنف، كان الأرجح أن يكتب بعض المفكرين داعين إلى اصطناع الرحمة والرفق والتسامح، وإن كانوا يَحْيَون فى عصر يسوده التراخى وميوعة العواطف، فالأرجح كذلك أن يجيء تفكير المفكرين فى جملته أمْيَل إلى دعوة الناس إلى شيء من التماسك والصلابة والشدة؛ ومن قبيل ذلك أنه إذا انزلق قوم مع نعومة الإيمان الساذج وطَراوته؛ ظهر المفكر الذى يدعوهم إلى التشكك والتعقل كما فعل ديكارت فى عصره، وكذلك إن غلا القوم فى تقييد أنفسهم بشكائم العقل ومنطقه؛ ظهر المفكر الذى يثير فيهم الوجدان الشاعر والقلب النابض الحَسَّاس، كما فعل روسو رادًّا على فعل فولتير وتابعيه.
وعقيدتى هى أن عصرنا هذا فى مصر بصفة خاصة، يسوده استهتار عجيب فى كل شيء، والذى يهمنى الآن ناحية خطيرة من نواحى حياتنا، هى ناحية التفكير والتعبير؛ فقد اعتادت الألسنة والأقلام أن ترسل القول إرسالًا غير مسئول، دون أن يطوف ببال المتكلم أو الكاتب أدنى الشعور بأنه مطالَب أمام نفسه وأمام الناس، بأن يجعل لقوله سندًا من الواقع الذى تراه الأبصار وتمسه الأيدي.
فلو كان هذا "الارتجال" الحر الطليق من قيود الواقع وشكائمه مقصورًا على جوانب هَيِّنة يسيرة من حياتنا، لما كان الأمر بحاجة إلى جهد يُبْذَل، لكنه ارتجال اتسعت رقعته، حتى شمل حياتنا العملية والعلمية كلها أو كاد، بحيث أصبح أمرًا مألوفًا أن نرى الحاكم عندنا يحكم الناس بلا عدٍّ أو حساب، والاقتصادى يَصْدُرُ فى مشروعاته عن غير إحصاء وأرقام، والعالِم يقول القَوْل بلا سند أو دليل.
وهذه كلها — فى حقيقة الأمر — فروع تفرَّعت عن مشكلة أعم وأضخم، هى مشكلة الأخلاق التى أحاطت بحياتنا الفردية والاجتماعية من جميع جهاتها، فتراها بادية فى مظاهر لا تخطئها العين المسرعة العابرة؛ وهل من سبيل أمام الرائى أن تخطئ عينه هذا الاستخفاف الشامل، الذى رفع عن كواهل الناس كل شعور بالتَّبِعة فيما يقولون وما يفعلون؟ لا فرق فى ذلك بين حاكم ومحكوم، وكدتُ أقول ألا فرق بين عالم وجاهل، فهو استخفاف بكل شيء، قد تغلغل فى ثنايا حياتنا، واصطبغت بلَوْنه دنيانا بكل ما فيها من جليل وتافه، حتى أصبح المتعقب للحق — على عُسْر الطريق ومشقته — هو الحقيقى مِنَّا بالسخرية والضحك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة