الإمام الغزالى أفتى بتفضيل إطعام المساكين والمرضى على الحج المتكرر.. الإمام العز بن عبد السلام قال إن الله لم يأمرنا بأن نقلد الصحابة فكيف نقلد أصحاب المذاهب وقال إن «الشريعة كلها إما درء مفاسد أو جلب مصالح»
- حسن العطار دافع عن تشريح الجثث وقال إن الدين لا يتنافى مع العلم.. الإمام مصطفى عبدالرازق قال إن الدين والفلسفة يبتغيان سعادة البشر لكن الدين يقوم على التصديق ومصدره القلب بينما الفلسفة تقوم على النظر ومصدرها العقل..الإمام محمد عبده أنصف المرأة وقال إذا تعارض العقل وظاهر الشرع أخذنا بما دل عليه العقل.. الشيخ مصطفى عبدالرازق اعتبر صوت أم كلثوم «نعمة من نعم الدنيا» وكتب عن مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم وهو ما زال مغمورا
* العز بن عبدالسلام أفتى بجواز التيمم للنساء إذا ما كان الماء يؤثر على جمال ووجههن ويصيبه بتغير لونه كما يحدث فى الشتاء
* الغزالى قال إن من يحفظ الأحاديث النبوية ويرددها إنما هو «وعاء للعلم وليس عالما».. وقال إن المتعصبين لمذهب أو شخص واحد أقرب إلى الكفر والتناقض
* الإمام الشاطبى مؤسس علم المقاصد اتهم بالتشيع لأنه لم يكن يذكر الخلفاء الراشدين فى الخطب فقال «بُليتُ يا قومِ والبلوى منوعةُ»
* الشيخ حسن العطار لامه أحدهم على حبه لسماع الأغانى وكتابة الشعر الغزلى فقال له: «من لم يتأثر برقيق الأشعار تتلى بلسان الأوتار على شطوط الأنهار فى ظلال الأشجار فذلك جلف الطبع حمار»
* الإمام محمد عبده وضع مصالح الأمة فوق كل اعتبار قائلا: إن الدين أنزل لمصلحة الناس وأن من أصوله منع الضرر والضرار قال إن الإسلام يقاضينا إلى العقل
*الشيخ مصطفى عبدالرازق دعا إلى فتح باب الاجتهاد قائلا: تنبهت العقول وزالت غشاوة الغفلة عن البصائر ففهموا أن الدين ليس غلا للقلوب ولا قيدا على الأفكار
تناولنا أمس، كيف اتسع العقل الإسلامى ليستوعب المتغيرات الطارئة على الواقع، وكيف تفاعل معها بإيجابية وسلاسة ويسر دون أن يقف الإسلام حجر عثرة فى طريق التقدم، وسار على هذا النهج كثير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سار عليه كثير من التابعين وتابعى التابعين وصولا إلى الأئمة الكبار الذين رسخوا قواعد الفقه الإسلامى وأسسوا مدارسه، وكيف اختلف هؤلاء الفقهاء مع بعضهم البعض بقوة مرة وبرفق مرات، واليوم نتتبع هذه الرحلة الكبيرة من الإسهامات العقلية الجبارة لرجال الفقه الإسلامى الذين استطاعوا أن يجددوا فى الدين وأحكامه وأن يراعوا مصالح الناس والدولة، وأن يسيروا بالعقل الإسلامى نحو الحرية وكسر الجمود.
- حجة الإسلام أبو حامد الغزالى
يقول عنه العلامة الطرطوشى إنه اجتمع فيه العقل والفهم وممارسة العلم، ويشهد له الإمام ابن الجوزى بأنه وضع الكتب الحسان فى الأصول والفروع التى انفرد بحسن وضعها وترتيبها وتحقيق الكلام فيها، أما الإمام الذهبى فيقول إنه «أعجوبة الزمان، وزين الدين، أبو حامد صاحب التصانيف والذكاء المفرط»، أما الحافظ ابن كثير فيعتبره من أذكياء العالم فى كل ما تكلم فيه، قال عنه العارف بالله المتصوف الكبير أبو العباس المرسى: أشهد له بالصديقية الكبرى، أما ابن النجار فيقول فيه إنه «إمام الفقهاء على الإطلاق، وربانى الأمة بالاتفاق ومجتهد زمانه وعين وقته وأوانه» وتلك الإشادات الكبيرة بمسيرة هذا الرجل لم تأت أبدا من فراغ، لكنها أتت من استنارة عقل وجسارة روح وقوة فى الفكر.
ابو حامد الغزالى
هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزّالى الطوسى النيسابورى، الفقيه الصوفى الشافعى الأشعرى، الملقب بحجة الإسلام وزين الدين «450 هـ - 505 هـ» ويمثل الإمام الغزالى ظاهرة نادرة فى الثقافة العربية، فنادرا ما ترى رجلا يجمع الجميع من مختلف المشارب والحقول والتخصصات على علمه وفضله وإخلاصه واجتهاده مثلما أجمع العلماء على أبوحامد الغزالى، وإن أردت أن تعرف أبوحامد الغزالى حقا فانظر إلى جملته هذه حتى تدخل إلى عالمه، وتستوعب فكره، وتقتضى بنور إخلاصه فى السعى وراء الحكمة التى أتاها له الله وهو «يؤتى الحكمة من يشاء» إذ يقول الإمام حجة الإسلام «لا أغادر باطنيا- يتبع المذهب الباطنى- إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريا- يتبع المذهب الظاهرى- إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد فى الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته».
ولم يقدس الإمام الغزالى فى كل كتبه إلا الله والرسول والعقل الإنسانى، بل إنه يعليه على ما عاداه حتى أنه يعتبره القاضى، ويعتبر الشرع هو الشاهد فيقول: «أما بعد فقد تناطق قاضى العقل وهو الحاكم الذى لا يعزل ولا يبدل، وشاهد الشرع وهو الشاهد المزكى المعدل بأن الدنيا دار غرور لا دار سرور ومحل تجارة لا سكن وعمارة»، بل إنه يرفع العقل إلى درجة لم يسبقه فيها سابق، حيث يقول: العقل هو أشرف الأشياء لأنه مركب الديانة وحامل الأمانة! كما يقول: «لا غنى بالعقل عن السماع، ولا غنى بالسماع عن العقل، فالداعى إلى محض التقليد مع عزل العقل جاهل، والمكتفى بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعا بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية».
ويمضى الإمام ليفند حجج من يدعون أن الدين لا يقبل إعمالا للعقل فيقول: «وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية، وأن الجمع بينهما غير ممكن، وهو ظن صادر عن عمى فى عين البصيرة نعوذ بالله منه»، بل يتمادى الإمام فى الهجوم على هؤلاء ويعتبر من يدعو إلى تعطيل العقل فكأنما يدعو إلى الكفر، مؤكدا أن العقل هو سبيل الإيمان وغلقه هو سبيل الانسلال من الدين، فيقول: «بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض، فيعجز عن الجمع بينهما، فيظن أنه تناقض فى الدين فيتحير به، فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين».
ولا يحارب الإمام شيئا مثل محاربته تعطيل العقل، إلا آفة التقليد التى أصابت المجتمع الإسلامى، فيقول: وينبغى على المقلد لرسول الله «أن يكون حريصا على فهم أسراره» موجبا على المؤمنين أن يبحثوا «عن أسرار الأعمال والأقوال لا منطوقها فحسب، مؤكدا أن من يحفظ الأحاديث النبوية ويرددها إنما هو «وعاء» وليس عالما، لأنه «لا يسمى عالما إذا كان شأنه الحفظ من غير اطلاع على الحكم والأسرار»، ولا يتورع الإمام من إظهار ضيقه وملله من «المقلدين» ويعتبرهم «قاصرين»، مطالبا إياهم بالسكوت قائلا: «وشرط المقلد أن يسكت، ويسكت عنه لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج»، كما يقول: «المقلد يقلد مذهبا سمعه وجمد عليه، وثبت فى نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع، من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة»، مؤكدا أن المقلدين يحرمون أنفسهم من الاستمتاع بنور برق المعرفة، ساجنين أنفسهم فى ضيق مذهبهم، متخيلين أن المعرفة «من غرور الشيطان»، فيبتعدون عنها بفعل شيطان جديد يطلق عليه اسم «شيطان التقليد» لشيخ واحد أو مذهب واحد يتعصب له ولا يسمع إلاه، مؤكدا أن هذه الحال هى إلى الكفر والتناقض أقرب منها إلى الإيمان والتناغم.
ولأن الإمام الغزالى قد عاش فى زمن يسهل فيه التكفير فقد حارب هذه الفكرة بكل قوة وحجة، محرما أن يتم تكفير أحد يقول لا إله إلا الله، فأطلق الإمام صرخته قائلا: «إنه لا تكفير لكل من يشهد بأنه لا إله إلا الله»، مؤكدا أن «الخطأ فى ترك ألف كافر فى الحياة أهون من الخطأ فى سفك محجمة من دم مسلم»، ولا يتحسر الإمام على شىء قدر تحسره على انتشار ثقافة التكفير بشكل سرطانى فى المجتمع المسلم، فيقول: «الحنبلى يكفر الأشعرى زاعما أنه كذب الرسول فى إثبات الفوق لله تعالى، والأشعرى يكفره زاعما أنه مشبه، والأشعرى يكفر المعتزلى زاعما أنه كذب الرسول فى جواز رؤية الله تعالى، والمعتزلى يكفر الأشعرى زاعما أن إثبات الصفات تكذيب للرسول فى التوحيد»!
ويضع الإمام فى كتبه ما يمكن أن نطلق عليه اسم «فقه الأولويات» فنجده يقر بأنه إن استحالت الواجبات كلها فيجب على المسلم أن يرتبها حسب الحاجة إليها، فنجده مثلا يقول: تقدم الفرائض على النوافل، وتقدم فروض الأعيان على فروض الكفاية، ويقدم فرض الكفاية الذى لا قائم به على ما قام به غيره، ويقدم الأهم من فرض الأعيان على ما دونه، وتقديم ما يفوت على ما لا يفوت، ويتخذ من حديث رسول الله عن تفضيل الأم على الأب فى الصلة، فيقول: «ينبغى على الإنسان أن يبدأ فى الصلة بالأقرب، فإن استويا فبالأحوج، فإن استويا فبالأبقى»، ولا يتورع الإمام الذى رأى الفقراء يموتون جوعا ومرضا فى الإفتاء بتفضيل التصدق على الفقراء بأموال الحج إن أدى الإنسان الفرض، قائلا إن الأفضل لمن يحج وينفق ألفى درهم أن يسد دين مدين، أو يكفى فقيرا عن التشرد، أو يغنى عائلا عن السؤال، أو يفرح من يربى اليتيم، قائلا إن إدخال السرور على قلب مسلم أو إغاثة لهفان أو كشف الضر عن إنسان وإعانة الضعيف أفضل عند الله من مائة حجة بعد حجة الإسلام.
- العز بن عبدالسلام
قال عنه الإمام الذهبى: «بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع، وقال عنه ابن دقيق العيد: «كان ابن عبدالسلام سلطان العلماء»، وقال عنه ابن الحاجب: «ابن عبدالسلام أفقه من الغزالى»، وقال عنه ابن السبكى إنه: «شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها».
العز بن عبد السلام
ومن النوادر التى تروى عنه إنه ذات مرة أفتى لرجل فى مسألة، ولما رجع إلى منزله اكتشف خطأه، فراح يبحث عن الرجل الذى أفتى له، وجعل تلامذته يطوفون فى الشوارع والأسواق ينادون على من أفتى له الشيخ قائلين: من صدرت له فتيا بالأمس العز بن عبدالسلام فلا يعمل بها فهى خطأ، وليعد إلى الشيخ ليفتيه بالرأى الصحيح.
«الشريعة كلها إما درء مفاسد أو جلب مصالح» تلك هى القاعدة التى وصل إليها الإمام بعد تبصره واجتهاده، فما فيه المصلحة فيه الخير كله، وما فيه اجتناب المفسدة فيه الخير كله، والحالان هما قصد الشريعة الأساسى، وفى ذلك يقول الإمام: ومن أراد أن يعرف المصالح من المفاسد فليعرضها على العقل.
وفى ذلك يقول أيضا: إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء معاطب الأسقام، والذى وضع الشرع هو الذى وضع الطب، والاثنان موضوعان لجلب المصالح ودرء المفاسد وتأسيسا على وجهة النظر هذه استنبط الكثير من الأحكام، فنهى عن المشقة فى العبادات، قائلا إن الله جل وعلا لم يكن ليشق على عباده، تماما كما لا يقصد الطبيب أن يعذب المرضى بالدواء المر، وفى تفضيله للمصالح فقد أمر باتباعه الأحسن مستدلا على ذلك بقول الله تعالى «يستمعون القول فيتبعون أحسنه»، قائلا إن إنقاذ الغرقى مقدم على الصلاة والصيام، ومصالح الفقراء أولى من مصالح الأغنياء، كما أفتى بجواز التيمم للنساء إذا ما كان الماء يؤثر على جمال وجوههن ويصيبه بتغير لونه كما يحدث فى الشتاء، كما أفتى بجواز العيش فى البلاد التى يعم فيها الحرام، لأن ترك المؤمنين لهذه البلاد يمكن الفجار منها، وأفتى بضرورة ووجوب الثورة عند وقوع اغتصاب سلطة أو مال أو عرض قائلا إن ثورة المغصوبين على الغاصب واجبة، كما اعتبر الإمام المتصوفة الحقيقيين الذين لا يسقطون العبادات ولا يؤمنون بالخرافات «أهل الحقيقة» وكان على صلة مودة كبيرة بالحسن الشاذلى وإبراهيم الدسوقى، بل كان يقول لتلاميذه «اسمعوا كلمتهم فهو قريب العهد من ينبوع الحقيقة»، وكان فى كل فتاواه بعيدا عن التقليد وقريبا من روح الشريعة، لا يأخذ من كل مذهب أحسنه وينهر من يطالبونه بالالتزام بمذهب واحد ويقول لهم إن الله لم يأمرنا بأن نقلد الصحابة فكيف نقلد الأئمة أصحاب المذاهب.
ويحفظ التاريخ للعز بن عبد السلام موقفه الناصع من الحروب الصليبية، فقد وصلت الأنباء إلى البلاد بأن الصليبيين يهاجمون دمياط فخرج الشيخ إلى هذه البلدة ليحث الناس على الجهاد وملأ الدنيا دعوة للجهاد فى سبيل الله فانتصر المصريون على الصليبيين، وكان له أكبر الأثر فى المعركة، ولما حاول التتار غزو مصر انتفض الشيخ مرة أخرى وحث الناس على الجهاد وحينما أراد الأمير قطز أن يفرض ضرائب جديدة على الناس منعه من ذلك وقال له خذ الأموال التى تريدها من أمرائك وأغنياء البلاد واترك الفقراء لفقرهم فاستجاب الملك، وأخذ يحفز الناس على الجهاد حتى انتصر المصريون على التتار، وبعدها أصاب الشيخ الوهن والكبر وعلم أن ميعاد لقائه بربه قريب، فقال لأبنائه ساعدونى لأذهب إلى الدرس، وكان قد انقطع عنه منذ مدة، فساعدوه وجلس على جلسته يفسر القرآن ليلاقى ربه وهو يفسر الآية التى تقول «الله نور السموات والأرض».
- الإمام الشاطبى.. مؤسس علم المقاصد
لا يكاد اسمه يغيب عن حلقات الدرس وكتابات المشايخ الأساتذة الكبار منذ مطلع القرن الماضى، فقد وجد الجميع ضالتهم فى هذا الرجل الذى وضع نظرية «مقاصد الشريعة»، فنال الاستحسان، وأصبح محل الاستشهاد، هو إبراهيم بن موسى بن محمد أبو إسحاق اللخمى الغرناطى، الشهير بالشاطبى، وكنيته التى عرف بها أبو إسحاق، المولود بغرناطة الأندلس، تلك الجنة المفقودة التى أخرجت عشرات العلماء الأجلاء، وعشرات الفلاسفة العظام، وعشرات المتصوفة الأقطاب، وآلاف الكتب المهمة التى أسهمت فى تشكيل وعى الثقافة العربية.
الامام الشاطبى
«إنى- ولله الحمد- لم أزل منذ فتق للفهم عقلى، ووجه شطر العلم طلبى، أنظر فى عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر منه على علم دون علم، بل خضت فى لجاجه خوض المحسن للسباحة، وأقدمت فى ميدانه إقدام الجرىء، إلى أن منّ علىّ الرب الكريم، الرؤوف الرحيم، فشرح لى من معانى الشريعة ما لم يكن فى حسابى».. هذا ما يقوله الإمام أبو إسحاق الشاطبى بنفسه عن نفسه، والذى يقر بأن نظريته فى الشريعة لم تكن فى حسبانه، وإنما من فتح الله عليه، وهذا ما أقره الفقهاء قديما وحديثا، فقد اعتبروا «نظرية المقاصد» من أهم نظريات الفقه الإسلامى بعد نظرية الإمام الشافعى فى تأسيس أصول الفقه، ولذلك اعتبره البعض مجدد المائة الثامنة، وباعث النهضة فى علم الفقه، لكن كما هى العادة لم يسلم الإمام الشاطبى، وهو السنى الأصولى المتخذ من أقوال السلف نبراسا، من إلصاق العديد من الاتهامات به، فقال عنه البعض إنه يدعى أن الدعاء لا ينفع، لأنه لم يكن يلتزم بالدعاء الجماعى فى الصلاة، وقال آخرون إنه تشيع لأنه لم يكن يذكر الخلفاء الراشدين فى الخطب، وهو الأمر الذى جعله ينشد شعرا قال فيه: «بُليتُ يا قومِ والبلوى منوعةُ.. بمن أُداريه حتى كاد يُردينى/دفع المضرة لا جلبُ لمصلحةٍ فحسبىَ الله فى عقلى وفى دينى».
«اتفقت الأمة، بل سائر الملل، على أن الشريعة الإسلامية وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، هى: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضرورى.. هذه هى النظرية الجامعة التى استخلصها الإمام بعد ثمانية قرون من الاجتهاد الفقهى فى الشريعة الإسلامية، بكلياتها وفروعها، قائلاً إن هذه الكليات الخمس أو المقاصد الخمسة من الأمور التى لا يرقى إليها الشك، فليبحر الفقهاء مهما أبحروا، وليتكلم فى أمور الشريعة من يتكلم، لكن الثابت على طول الدهر أن هدف الشريعة الأسمى ومقصدها الأنبل هو الحفاظ على هذه الكليات الخمس، وأى اجتهاد فقهى يخالف مبدأ الحفاظ على هذه الكليات باطل، كما أن أى اجتهاد فقهى يحافظ على هذه الكليات فهو قائم بإذن الله.
وبرغم أن الإمام الشاطبى لم يخترع هذه النظرية، ولم يأت بها من عدم، لكن وضعها والتأصيل لها كفل لها أن يقترن اسمه باسمها، فما أن يذكر الشاطبى حتى يذكر علم المقاصد، وما أن يذكر علم المقاصد حتى نترحم على الإمام الشاطبى، لكن الإمام لم يكتف بإطلاق أحكامه هكذا دون تدليل، فقد حرص على توثيق هذه الكليات من الكتاب والسنة، مؤكدا أن الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أكدا أهمية تلك المقاصد منذ بداية البعثة فى مكة، مروراً بالهجرة إلى المدينة، ثم خطبة الوداع التى شهدت اكتمال الدين فى مكة أيضا، فقد حفل القرآن الكريم بذكر هذه المقاصد والأمر بالحفاظ عليها، فحفظ الدين لا يحتاج إلى دليل من الكتاب لإثباته لأنه معلوم بالضرورة، أما حفظ النفس فقد أمرنا الله به فى قوله «وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ»، وقوله: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ»، وحفظ النفس يتطلب أيضا حفظ العقل بتحريم المسكرات، وحفظ النسل ثابت لا محالة بتحريم الزنى وتفحيشه، والأمر باجتنابه، وإقامة الحد على مرتكبه، كذلك حفظ المال بتحريم أكل الأموال بالباطل، والنص على تحريم السرقة، والعمل على مراعاة حقوق المسلمين المالية.
ولتعظيم مكانة هذه الكليات الخمس فى الشريعة فقد حرص المولى عز وجل على تذليل الصعاب أمام مهمة الحفاظ عليها، فأتاح الرخص بعد الرخص، لكى يرفع عن الناس الحرج، ويضمن أن تدوم «مقاصد الشريعة» وألا تتبدل مهما تبدلت الأزمان والأحوال، فقد حفظ الله إقامة الصلاة بإتاحة الرخص فى الطهارة والوضوء، وتيسيرها على الناس بالتيمم فى حالة عدم وجود ماء طاهر، وأباح صلاة القصر، ورفع القضاء فى حالة الإغماء، وأتاح الصلاة قاعداً وعلى جنب، كما أتاح الإفطار فى رمضان فى السفر والمرض، كما حفظ النفس بتحليل ما تم تحريمه فى حالة الاضطرار، كتحليل أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب المحرمات فى حالة العطش الشديد، كما أحل الزواج بدون تسمية الصداق تيسيرا، لحفظ النسل، كما أباح الطلاق والخلع، وفى المال حلل الاقتراض الحسن، والتمتع بالطيبات من الحلال، وتبشيع الإسراف والتبذير، وبالنسبة للعقل فقد رفع الحرج عن المكره والمضطر إذا انتباه مرض أو عطش أو جوع.
وقبل أن نخوض فى جزئيات نظرية المقاصد، لا بد هنا أن نؤكد أن الإمام الشاطبى لم يخترع تلك النظرية، إنما وجدها فى كتب الفقه وفتاوى الأئمة ملقاة على دون تأطير ولا جامع ولا تدليل شاف فجمعها وأطرها ودلل عليها، وهذا ما انتبه إليه الشاطبى نفسه الذى كان كثيرا ما يشير إلى مجهود سابقيه فى كتابيه «الموافقات» و«الاعتصام»، وسابقوه هؤلاء هم الإمام الجوينى إمام الحرم المكى، والإمام الغزالى، والإمام العز بن عبدالسلام، وهم من سبقوه فى هذا التقسيم حينما حصروا المصالح الضرورية فى خمس، هى الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وقد أمرنا الله أن نتبع الإحسان، ونعمل الصالح فى جميع آيات الذكر الحكيم، واستفاض الإمام العز بن عبدالسلام فى التأكيد على هذه النظرية وجعلها مثل أصول التشريع، حيث قال إن العلماء قد أجمعوا على اختلاف تخصصاتهم ومذاهبهم وعصورهم على كون الشريعة قد تضمنت الحفاظ على ما أسماه «أمهات المصالح» أو «المصالح المحفوظة»، مؤكدين أن كل ما يحافظ على هذه المصالح فهو مصلحة، وكل ما يضيع هذه المصالح فهو مفسدة ودفعها مصلحة.
غير أن الإمام الشاطبى، وهو الذى اعترض على الإمام العز بن عبدالسلام فى احتكامه إلى العقل فى معرفة المصالح والمفاسد، تناقض مع نفسه حينما أقر ما أقره «العز» محتكما إلى عقله، فقد أقر الباحثون والفقهاء أن الشاطبى تتلمذ على كتابات «العز» خاصة فيما يتعلق بالمصالح والمفاسد، والنهى عن المشقة، فيقر بأن الإسلام لم يأت للتكدير على الناس، بل للتخفيف عنهم ومراعاة لمصالحهم وراحتهم، فنهى عن مشقة الاغتسال فى البرد، والقيام لصلاة الفجر، ومشقة الصوم والحج، وهنا تجدر الإشارة إلى أن نظرية الإمام الشاطبى لم تكن لتأخذ شهرتها، ولم تكن لتوجد أصلا لولا اعتماده على المذهب المالكى الذى يعد مذهب المصلحة والاستحسان، وهو المذهب الحازم فى درء المفاسد، والبحث عن علة التكليفات فى المعاملات وأسبابها، ليتحقق بالسبب ما لا يتحقق بالنص، ولولا أن الإمام الشاطبى وجد تراثا زاخرا بالعلم والاجتهاد منذ أيام الصحابة، مرورا بالأئمة الأربعة الكبار، والإمام الجوينى، والغزالى، والعز بن عبدالسلام، لما وضع هذه النظرية الكبيرة التى ستصبح فيما بعد نبراسا للمصلحين والمجددين ليطورا فيها، ويضيفوا عليها، ويكسبوها مرونة وأصالة، مستدركين ما فات الإمام الرائد الذى يكفيه وضع النظرية التى يتغنى بها الجميع الآن.
- شيخ الأزهر الإمام حسن العطار
أطلق الإمام حسن العطار صرخته حينما رأى من تقدم الفرنسيين ما رأى فى الحملة الفرنسية: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها»، فظلت هذه الصرخة تتردد حتى تغيرت البلاد وأدخل من العلم ما ليس فيها، فتسيدت مصر ما حولها من بلاد وأصبحت أهم وأكبر أقاليم العالم الإسلامى بعدما شربها الإهمال وأنهكتها السرقة وعمها الجهل أثناء فترة الحكم العثمانى لمصر، فصارت روحه تتوق إلى كل جديد، وصار قلبه يهفو إلى العلم أينما كان، فقد كان رحمه الله يقول:
من سَمَتْ هِمته به إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات، وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثير من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة فى رياض الفهوم».. أشادت باستنارته وعلمه وأدبه دائرة المعارف الإسلامية فجاء فيها أنه: كان العطار رجلاً مستنيرا، اشتهر بعلمه، وكان أيضا شاعرا ناثرا، وقال عنه محب الدين الخطيب فى كتابه عن «الأزهر»: وكان العطار متضلعا فى العلوم الرياضية فضلا على العلوم الشرعية والعربية، وقال عنه المؤرخ عبدالرحمن الرافعى: وكان الشيخ حسن العطار من علماء مصر الأعلام، وامتاز بالتضلع فى الأدب وفنونه، والتقدم فى العلوم العصرية، وكان هذا نادرا بين علماء الأزهر، كما قال عنه رفاعة الطهطاوى: كان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية، وقال عنه على مبارك: «إنه اشتغل بضرائب الفنون والتقاط فوائدها»، والشيخ الجليل عبدالمتعال الصعيدى الذى قائلا: «موقف الشيخ العطار من العلوم الرياضية بشكلها الجديد يدل على ما كان يمتاز به من مرونة عقلية ودينية، وعلى أنه كان فى هذا أحسن حالا من أهل الأزهر الذين حاربوا العلم بعده باسم الدين»، أما المؤرخ الأشهر لعصره عبدالرحمن الجبرتى فقال فيه: «صاحبنا العلامة، وصديقنا الفهامة، المنفرد الآن بالعلوم الحكمية، والمشار إليه فى العلوم الأدبية، وصاحب الإنشاء البديع والنظم الذى هو كزهر الربيع، الشيخ حسن العطار».
شيخ الأزهر الإمام حسن العطار
ولد الإمام العطار فى العام 1766 أى قبل مجىء الحملة الفرنسية على مصر بنحو ثلاثين عاما، ووقتها كانت مصر تئن تحت الحكم الخليفة العثمانى ووكلائها من المماليك الذين كانوا كثيرا ما يتصارعون فتصاب الأسواق بالخراب والزراعات بالبوار وتمتلئ البيوت بالنواح والحرائق، ومثلما كان الحال مترديا فى العلوم الدنيوية كان كذلك الحال فى العلوم الدينية، وهذا ما رصده عالم إنجليزى فى تقريره لحكومته فى بداية عصر محمد على باشا حيث يقول: إن التعليم الذى يقوم به أساتذة الشريعة فى المعاهد الدينية لتنشئة علماء الدين المسلمين قليل الجدوى، بل إنه ليهبط إلى مستوى يبلغ فيه من التفاهة الحد الأقصى، فحظ دراسة الآيات القرآنية التى تحض على الفضائل وتدعو إلى الأخلاق الحسنة قليل جدا إذا ما قارناه بحظ المسائل الشكلية فى الإسلام من الدراسة مثل معرفة مقدار التلوث فى الماء الذى يفسد الوضوء!!».
ويدين الإمام العطار الحال الذى وصلت إليه العلوم الشرعية فى زمنه وكأنه يصف زماننا فيقول: «ومن نظر ذلك وفيما وصل إليه الحال فى الزمن الذى وقعنا إليه علم أننا «كعلماء» منهم بمنزلة عامة أهل زمانهم» أى أنه يدين الحالة العلمية فى زمنه ويدين جهل العلماء وكسلهم فى التحقيق والتفقه حتى أنه يساوى بين علماء عصره وعامة الناس فى العصور السابقة، ويشرح الإمام العطار أسباب هذا الوضع قائلاً إنهم كعلماء: قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئا، نكرر ما قالوا فى كتبهم طوال العمر فإذا مر علينا سؤال من علم الكلام لم نجده فيها قلنا إنه لا أصل له، وإن مرت نكتة أدبية قلنا هذا علوم أهل الباطل.
وقد كان الإمام الجليل محبا للعلم كارها للجهل فيقول مترجم سيرته عبدالرازق البيطار إن الشيخ الجليل سافر إلى الشام وهناك «تلقاه أهلها بما لاق وعقدوا على تفوقه وتفرده بالفضائل كلمة الاتفاق»، وهناك تعرف على منجز الثقافات المختلفة وأهمها المنطق والفلسفة كما قرأ كثيرا عن تراث الهند وحراكها الفكرى وقارنه بالركود الشائع فى مصر، ودرس فى تركيا علوم الطب وهناك ألف كتابا عن التشريح انتقد فيه العالم المسلم الكبير ابن سينا، وقد كان ولوعا بدراسته هذه العلوم مؤكداً أنها تزيد الإنسان يقينا وإيمانا بالله وقدرته وقال متحسرا على بلده وافتقارها لهذا العلم «إن هذه المجالات لا يطرقها إلى عدد قليل من الناس فينقذون البشرية من الجهل والتخلف»، ولذلك دافع عن إدخال علم الطب إلى مصر وحينما حدث يوماً أن حاول أحد الطلاب أن يفتك بالطبيب كلوت بك وهو يمارس تشريح جثة فى مشرحة مدرسة الطب بأبى زعبل، وقف الإمام «حسن العطار» وقد كان وقتها شيخا للأزهر فى امتحان مدرسة الطب وقال إن الدين الحنيف لا يتنافى مع العلم ولا يعارضه وأشاد بتعليم الطب وفائدته فى تقدم الإنسانية.
وبرغم علم الإمام الكبير وتبحره فى تخصصاته اللغوية والدينية، لكنه لم يكن يكف عن مطالعة الكتب الأجنبية، وأخذ ينهل من الكتب المترجمة من التركية والفرنسية واليونانية، حتى قيل عنه «إن كلفة بالمعرفة والتعلم هو الذى جعله فذا بين أقرانه تلميذا وأستاذا، ولعل شغف الشيخ الكبير بالعلم هو الذى جعل محمد على يؤثره على من سواه، وهو ما رحب به الشيخ الذى رأى فى محمد على خير معين على تحقيق حلمه بتحديث مصر، فنال الشيخ ما يحلم به من إنشاء مدارس العلوم والطب والهندسة فى مصر كما كان مستشارا للوالى فى ترشيح من يراهم جديرين بالسفر فى البعثات، وإليه يعود الفضل فى ترشيح تلميذه رفاعة الطهطاوى للسفر إلى فرنسا وهى البعثة التى كان لها أكبر الأثر فى تاريخ مصر وتطوير علوم الأزهر.
يروى عنه أن أحدهم لامه وهو شيخ الأزهر فى حبه لسماع الأغانى وكتابة الشعر الغزلى فقال له: «من لم يتأثر برقيق الأشعار، تتلى بلسان الأوتار، على شطوط الأنهار، فى ظلال الأشجار، فذلك جلف الطبع حمار»، كما عمل على أن يعيد للعلم سيرته الأولى بأن يحصن العالم بالأدب والعلوم الطبيعية بجانب العلوم الدينية لما فى ذلك من فائدة عظيمة، لكنه حرص على ألا يصطدم بشكل مباشر مع شيوخ الأزهر المنغلقين، فأوعز إلى تلميذه محمد عياد طنطاوى بأن يعطى دروسا فى الشرح والتعليق على كتب الشعر والأدب، وبفضل هذا التوجيه استطاع الإصلاح فى الأزهر أن يسجل أول حركة فى الدراسات الأدبية والشعرية فى صحن الجامع العريق، كما أنه ينسب إليه الفضل فى تعرف الأزهريين على كتب الأدب المختلفة مثل كتاب الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى، وبرغم دور الإمام حسن العطار الكبير وتفقه الواسع لم ينل حظه حتى الآن من اهتمام الباحثين حيث تكتظ مكتبة دار الكتب بمؤلفات الشيخ التى تصل إلى ما يقرب التسعين مؤلفا، ما بين علوم الفقه وأصول الدين والنحو والبلاغة والفلسفة والطب، والهندسة، وما بين شروح ومقالات وأشعار، وظلت هذه المخطوطات القيمة والتى شكلت وعى عصر نهضة مصر الحقيقى مجهولة لا يراها دارس ولا قارئ.
- الإمام محمد عبده..المعلم الرائد
الأمة العاقلة لا تظلم، تلك هى القاعدة والمبدأ، والسبيل والغاية، والمشكلة والحل.. جملة أطقلها الإمام محمد عبده بعد أن أيقن من أن الإصلاح يبدأ أولا من إصلاح الأمم، فعمل بكل ما أوتى من قوة على الإصلاح، مرددا قوله تعالى: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب» فأناب إلى الله معتمدا على نوره المنثور فى الأكوان والأرواح، محتسبا أجره عند ربه، صانعاً اتجاها فكريا محافظا ومتجددا، أنار لنا قرنا من الزمان بنور المعرفة الحقة والاستبصار السليم، غير عابئ بأنصار الظلام ومروجى ثقافة الخنوع والاستسلام.
الإمام محمد عبده..المعلم الرائد
هو الإمام محمد عبده (1849/ 1905) المولود فى محافظة البحيرة بقرية محلة نصر بمركز شبراخيت، هو ذلك المناضل الذى عاش حياته يدافع عن القيم الإسلامية النبيلة منتصرا للشعوب العربية والإسلامية، مدافعا عن ثوراتها، وقائداً لنهضتها، ومحاربا من أجل إعلاء كلمة دينها وارتفاع قامتها فى دنياها.
نظر الإمام إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية فى عصره، فأيقن من أن الركود والجمود الضاربين فى جسد الأمة العربية بسبب ابتعاد الناس عن روح الإسلام التى أنارت العالم وأضافت إليه وجددته وطورت معارفه، ولما تأمل الإمام الفرق بين زمنه وزمن الحضارة الإسلامية وجده يكمن فى أن الزمن الحضارة كان يحتضن عشرات الأئمة المجددين، أما زمنه فليس به إلا المقلدون التابعون المزيفون الذين اختصروا الدين فى بعض الشكليات التى لا تنفع وتفيد، ولذلك كان من أوائل الداعين إلى فتح باب الاجتهاد، والذى كان إغلاقه سبباً من أسباب أزمة المجتمع الإسلامى وجمود الفكر، وانصراف الكثير عن الأخذ بأحكام الشريعة، كما دعا إلى قراءة النصوص الدينية فى ضوء المتغيرات الحديثة، واضعا مصالح الأمة فوق كل اعتبار دون الخروج عن ثوابتها القطعية، متبنيا نظرية مقاصد الشريعة التى تبلورت على يد الإمام الغزالى والعز بن عبدالسلام والإمام الشاطبى، وفى ذلك يقول الإمام محمد عبده: إن الدين أنزل لمصلحة الناس وغيرهم، وأن من أصوله منع الضرر والضرار.
كما دعا «الإمام» إلى الاستفادة من الفقه الإسلامى كله وعدم الاقتصار على مذهب واحد، فدرس مذهب الإمام مالك والإمام أبى حنيفة وحينما تولى الإفتاء كان يستفيد من منجزات المذاهب الأربعة بالإضافة إلى المذهب الجعفرى، معتمدا على عقله الذى يعرف المصالح من المفاسد من دون أن يجور على شريعة الله ولا منهجه الذى أضاء العلم وهو فى ذلك يقول: «إن الإسلام يقاضينا إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن لسلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟»، وهو أيضا صاحب المقولة الشهيرة: «إذا تعارض العقل وظاهر الشرع أخذنا بما دل عليه العقل»، متفقاً فى ذلك مع الإمام الغزالى الذى قال: «إن لنا معيارا فى التأويل، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره، علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك»، بما يعنى أنه إذا وجدنا نصا من نصوص الشرع، لا يتفق معناه الظاهر مع حكم العقل، علمنا أنه لا بد من أن يكون لذلك النص معنى غير معناه الظاهر، ووجب علينا أن نحاول تأويله تأويلا يخرج منه المعنى المقبول عقلاً.
حارب الإمام حربا شرسة من أجل إنصاف المرأة المسلمة التى ظلمتها عصور التخلف وأرجعتها متاعاً يستهلكه الرجل بعد أن أنصفها الإسلام وساوى بينها والرجل واعتمد عليها فى ازدهار حضارته وتقوية مجتمعه.فيقول الإمام إن الإسلام: أبعد من أن يكون حجر عثرة فى سبيل تطور المرأة، وإنه على العكس من ذلك يميل إلى رد حقوقها»، مؤكداً أن أن المسلمين لم يأخذوا بما جاء به القرآن من أحكام فى شأن المرأة بل أهملوه، وارتدوا فى كثير منها إلى ما كانت عليه المرأة فى «جهالة الجاهلية».مستشهداً بالقرآن والسنة والتاريخ، صرخ الإمام مطالباً بحرية المرأة، قائلاً إن الله خلق الذكر والأنثى «مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ» فكيف يفرق بينهما؟ موضحاً أن «كلاًّ منهما بشر تام، له عقل يتفكر فى مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسرُّ به، ويكره ما لا يلائمه، وينفر منه»، ومؤكداً أن احتكار المرأة الذى تتسرب إلى بعض الدعاوى المنتسبة إلى الإسلام ناتج عن الإسرائيليات التى كانت تحتقر المرأة وتعتبرها مخلوقا غير كامل، وفى ذات الوقت يؤكد الإمام أن للرجال على النساء درجة كما هو واضح فى القرآن الكريم، وهذه الدرجة راجعة لأمور «كسبية» أى مكتسبة من الحياة من حيث إن الرجل يسافر ويتاجر ويعرف ما لا تعرفه النساء، وهو الأمر الذى يتغير بتغير العصر، أما الأمر الثانى فهو راجع إلى الفطرة التى فطرنا الله عليها من حيث إن المرأة أضعف جسمانياً من الرجل، ولهذا كفل الله للرجل «القوامة» غير أنه يجتهد مع قول المفسرين بأن الرجل مفضل عن النساء لأن شهادة رجل بشهادة امرأتين، فقال الإمام إن هذا الحكم ينطبق على المعاملات المالية فقط، وذلك لأن المرأة لم تكن وقت نزول القرآن تخرج من بيتها ولا تتاجر ولذلك فإنها معرضة للسهو والنسيان، فهذا الحكم ليس لنقصان فى عقل المرأة أو أهليتها ولكن لعدم خبرتها بهذه الأمور، ومع ذلك فقد اكتفى الإسلام بشهادة امرأة واحدة فى أمور الرضاعة والولادة وعدده المحرم وهذا يدل على أن الخبرة هى الفيصل وليس نقصان الأهلية فى جنس النساء عن جنس الرجال، أما فى الميراث فيستشهد الإمام بقول الله تعالى: «للرِّجَالِ نَصِيبٌ ممَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْربَوُنَ وَاِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْواَِلدَانِ وَالأَقْربُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرََ نَصِيباً مَفْرُوضاً» وهى الآية الى فسرها بأن فيها تقريرا لحق المرأة فى الميراث وأنه ليس للرجل وحده، كما أنصف الإمام المرأة وطالب بتعليمها قائلاً: كيف تسعد فى الدنيا أو الآخرة أمة نصفها كالبهائم لا يؤدى ما يجب عليه لربه ولا لنفسه ولا لأهله ولا للناس، والنصف الآخر قريب من ذلك، مؤكداً أن الإسلام أمرنا بتعليم المرأة حينما أمرنا باتباع أهل العلم وحثه على التعليم واكتساب الخبرات والمشى فى الأرض متأملين حكمة الله فى خلقه، كما كان الإمام واضحاً فى مسألة تعدد الزوجات، مؤكداً أن الإسلام لم يقر تعدد الزوجات كهدف فى ذاته وإنما أقره كهدف اجتماعى وهو الحفاظ على أموال اليتيمات كما اشترط الإسلام فيمن يتزوج بأكثر من واحدة أن يكون عادلاً وفى ذلك طالب بتقييد تعدد الزوجات وضبطه وناشد العلماء إعادة النظر فى هذه المسألة وتحريم تعدد الزوجات إلا فى حالة الضرورة.
«لقد تركت لكم الشيخ محمد عبده وكفى به لمصر عالما» تلك هى الكلمة التى قالها جمال الدين الأفغانى حينما سافر من مصر، وللحق كان محمد عبده نعم العالم، ونعم المجدد فقد ترك مجموعة فتاوى دينية كبيرة كان من شأنها أن تصالح بين الإسلام ومستجدات العصر، فحفظت الإسلام من الاصطدام بالعلوم الحديثة، فأباح إيداع الأموال فى صناديق التوفير وأخذ الفائدة عليها، وحلل ذبائح أهل الكتاب، وأجاز ارتداء ملابسهم، وانتهج نهجا يعتمد على العلوم الطبيعية الحديثة فى التفسير، وحارب جهل الناس بالسنة النبوية، مؤكداً أن أسباب هذا الجهل تنحصر فى الفهم المغلوط لمضامين الدين ومعايير الحياة والتقليد الذى تسبب فى انصراف الناس عن توظيف سنن الله لصالحهم والإفادة منها، وأن إحياء الدين يتطلب إحياء لتعاليمه الآمرة بالنظر فى التاريخ الذى يشرح ما عرفه الذين ساروا فى الأرض ورأوا آثار الذين خلوا، ثم دراسة التاريخ وأحوال البشر، والاعتبار بالقصص القرآنى، والنظر فى الكائنات وأحوالها والتعمق فى دراستها، مؤكداً أن «من وسائل الوصول إلى معرفة السنن البحث فى علوم الكائنات وجعل ذلك أصلاً من الأصول التى دارت عليها سورة الأنعام وهو الترغيب فى علوم الكائنات والإرشاد إلى البحث فيها لمعرفة سنن الله وحكمته وآياته الكثيرة فيها الدالة على علمه وحكمته ومشيئته وقدرته وفضله ورحمته».
كان الإمام يدعم كل ما يهذب الروح وينمى الفكر ويأجج الوجدان بنور الله الممتد فى الأكوان، وهذا هو السبب الذى جعله يرغب الناس فى الفن التشكيلى مؤكدا عدم حرمته لأنه من وجه نظره «ضرب من الشعر الذى يرى ولا يسمع والشعر شرب من الرسم الذى يسمع ولا يرى»، قائلا إن الفائدة محققة من الرسم لا نزاع فيها وإن الإسلام حرمه لسببين، الأول إذا تبرك به الناس والثانى إذا كان الفن لهوا، وهذا ما لا يوجد فى الرسم الجاد الداعى إلى الجمال والتهذيب الروحى والنفسى، كما أن موقف الإمام من الرواية هو نفسه موقفه من الرسم، وليس أدل على ذلك من الخطاب الذى أرسله إلى الروائى الروسى الشهير تولوستولى حينما عاقبته الكنيسة بالحرمان حينما نشر كتابا يعلن فيه عدم اقتناعه بألوهية المسيح، فبعث إليه ببخطاب يستدل منه على أن الإمام كان قارئا متأملاً له، فقال فى هذا الخطاب مواسياً: فكما كنت بقولك هاديا للعقول كنت بعملك حاثا للعزائم والهمم ولما كانت آراؤك ضياء يهتدى به الضالون كان مثالك فى العمل إماما يقتدى به المسترشدون وكما كان وجودك توبيخا من الله للأغنياء كان مددا من عنايته للضعفاء والفقراء.
- شيخ الأزهر الإمام مصطفى عبدالرازق
أدعوك قبل أن تقرأ السطور القادمة عن الإمام «مصطفى عبدالرازق» أن تنسى تفاصيل هذه الأيام، وأن تنسى أولئك الذين يعدون أنفسهم أئمة ومشايخ، وأن تجنب نفسك كدر مقارنتهم بمن تقرأ عنه، لكى لا تظلمه أو تظلم نفسك وتحرمها من التأمل فى هذه الشخصية النادرة، هو الشيخ مصطفى عبدالرازق «1885م - 1947م» شيخ الجامع الأزهر الشريف، ومجدد للفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث، وصاحب أول تاريخ لها بالعربية، الذى ما أن يمس شيئا من العلم حتى يحوله أيقونة جمالية ترتاح لها القلوب وتأنس لها الأرواح، سيرته المتداولة تقول إنه تولى وزارة الأوقاف، وكان أول أزهرى يتولاها، واختير شيخا للأزهر فى ديسمبر 1945، فتنازل عن لقب الباشوية الذى كان الملك قد أنعم عليه به، مفضلا أن يكون لقبه هو شيخ الأزهر وأن تكون نسبته إلى هذا الجامع الجامعة الذى صار جزءا من تاريخ مصر وحضارتها.
مصطفى عبد الرازق
كان أحد تلامذة الإمام محمد عبده وكان يراسله سرا وينشر رسائله دون توقيع الراسل لكى لا يصب الأزهريون جام غضبهم على الطالب اليافع، ومن الإمام تعلم حب الحياة وغرس فى نفسه حب المعرفة والتوق إلى التعلم والترحال والنهل من منابع المعرفة، فسافر إلى فرنسا ودرس فى جامعة «السوربون»، ثم جامعة ليون التى حاضر فيها فى أصول الشريعة الإسلامية، وحصل على شهادة الدكتوراه برسالة عن «الإمام الشافعى أكبر مشرعى الإسلام» ثم ترجم إلى الفرنسية «رسالة التوحيد» للإمام محمد عبده بالاشتراك مع «برنار ميشيل» وألفا معا كتابا بالفرنسية، لتتضاعف كتبه بعد على مدار حياته فيكتب دراسة صغيرة أدبية عن الشاعر المصرى البهاء زهير الذى عاش فى أيام الدولة الأيوبية، ثم كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» ثم كتاب «فى سيرة الكندى والفارابى» ثم كتاب «الإمام الشافعى»، ثم كتابه الدين والوحى والإسلام، ثم كتابه «فيلسوف العرب والمعلم الثانى» ثم كتابه «محمد عبده سيرته».
فى فرنسا درس علم الاجتماع على يد عالم الاجتماع الأشهر إميل دوركايم، ثم عمل مع الأستاذ «لامبير» فى كلية القانون فى ليون ودرس أصول الفقه فيها، ثم تم استدعاؤه ليعمل مدرسا للأدب العربى واللغة العربية، وبجانب هذا أعد رسالته للدكتوراه، وكانت آراء المستشرقين فى هذه الآونة تجلد الحضارة الإسلامية وتدعى أنها حضارة فقيرة أخذت عمارتها من الأمم السابقة كما أخذت فلسفتها من اليونان لتبنى على وجهة النظر هذه نظرية تقول إن العرب لا يفكرون، وإنهم ليسوا أصحاب حضارة ليتم تبرير التوجه الاستعمارى بحجة أنه يرفع من شأن البلاد التى يحتلها المحتلون، وهو ما انتفض الإمام من أجله مدافعا عن حضارته ومنجزها الفكرى والفلسفى قائلا إن الفلسفة الإسلامية ليست تلك التى نجدها عند ابن سينا والفارابى، ولكنها تكمن فى منجز العرب المسلمين فى علم الكلام ومصادر فلسفة التشريع الإسلامى، وبذلك أسس ما عرف بعد ذلك بالفلسفة الإسلامية التى يدرسها العالم حتى الآن تحت هذا التعريف.
يتعرض الإمام إلى مشكلة علاقة الفلسفة بالدين وهى العلاقة التى شغلت أذهان الكثيرين وفيها وقعت مساجلات عديدة أشهرها ما دار بين الإمام أبوحامد الغزالى والفيلسوف ابن رشد، فيقول الإمام الكلمة الفصل فى هذا الشأن مرجحا أن الدين والفلسفة يبتغيان سعادة البشر، غير أن الدين يقوم على التصديق والإيمان ومصدره القلب، بينما الفلسفة تقوم على النظر والفكر ومصدرها العقل، لذلك فهما متفقان فى الغاية مختلفان فى الوسيلة، ولا يجوز أن نخلط بينهما ولا أن نفسر الدين بالفلسفة، وإنما يبغى أن ننظر إلى كليهما باستقلالية عن الآخر، وهو الرأى الذى يتشابه مع رأى الإمام أبى حامد الغزالى، لكن الإمام يرفض فكرة أن تكون الفلسفة خادمة للدين لأن ذلك يضر بالفلسفة والدين على حد سواء، فضرره بالدين يتلخص فى أنه يعكر صفو العقائد المقدسة ويجعلها قابلة للأخذ والرد والمناقشات العقلية المتناقضة، كما أن الفلسفة تكتسب بالأدلة بعيدا عن المشاعر القلبية التى تميز الوصول إلى حقائق الدين التى تملأ قلوب المؤمنين، أما الضرر الواقع على الفلسفة من خلطها بالدين فهو أنه يكسبها قدسية ليست بها، ويحدد نتائجها قبل إجراء مباحثها، وذلك يحد من حرية البحث ويحصنها من النقد، وهو ما لا يجب.
ولا يعنى هذا أن الإمام يغفل دور العقل فى الدين، بل على العكس فإنه يعليه ويعتبره «صديق النقل» إذ لا إيمان إلا للعاقلين، ولا حساب ولا عقاب إلا لمن يستفتون عقولهم فتفتيهم، ويرى الإمام أن الإسلام جمع بين الدين والشريعة، قائلا «أما الدين فقد استوفاه الله كله فى كتابه الكريم ولم يكل الناس إلى عقولهم فى شىء منه، وأما الشريعة فقد استوفى أصولها وترك للاجتهاد تفاصيلها» ولع هذا الاقتباس يبرز رأى الشيخ فى مسألة الاجتهاد الذى يرى أنه ضرورة وواجب على كل الأئمة فى كل العصور، رافضا مبدأ غلق باب الاجتهاد مثل أغلب مصلحى عصره وعلمائه، ومؤكدا على تدعيم الإسلام للحرية الفكرية قائلا: قد تنبهت العقول وزالت غشاوة الغفلة عن بصائر الناس، ففهموا أن الدين ليس غلا للقلوب ولا قيدا على الأفكار.
ويمضى الإمام فى كل كتاباته وتأملاته الإسلامية والفكرية متسامحا ومتصالحا لا يبتغى شيئا سوى نهضة المسلمين ورفعتهم، ولم أره مهاجما أحدا من المختلفين عنه إلا فى حالة واحدة هاجم فيها الشيخ أصحاب النزعة الوهابية المتشددة، بل إنه غالى فى الهجوم عليهم وفق منظوره المتسامح وأطلق على مذهبهم اسم «دين أهل نجد» فى إشارته منه إلى أن الدين الإسلامى لا يتضمن كل هذا التشدد، ومعلنا ضيقه بدعاوى التكفير التى أخذت فى الانتشار بعدما جاء «هذا الدين» فيقول الإمام: «ولقد نبرأ بدين هيئة كبار العلماء الذى يدفع بالكفر كل نزوع إلى العلم والفهم والذوق، فلما جاءنا دين أهل نجد يهدم على من فيها قبابا قد تكون آثارا فنية وتاريخية، يعرف خطرها «أى أهميتها» أهل الفن والتاريخ» قائلا فى النهاية إن الدين برىء من مثل هذه الدعاوة وإنما يشوه الدين أولئك الذين يريدون كيدا وتضليلا وقيدا للعقول والقلوب ثقيلا، ثم شن الإمام حملة على أولئك الذى يضيقون النظر فى الدين ويملأون الدنيا بفهمهم الخاطئ للإسلام وهم فى الحقيقة لا يراعون شيئا قدر مراعاتهم لشهواتهم ورغباتهم فتراهم تحت شعار الدين يكثرون من الزواج والطلاق ويبالغون فى الاحتفاء بالمأكل والمشرب.
ولعل أكثر مواقف الإمام تحضرا هو موقفه من الفن الجاد المثمر الممتع فقد كان شغوفا بالفن والموسيقى والشعر والمسرح، وكان يقول عنه إنه يفيد الإنسان فى البحث عن قيم الحياة، لأنه إحساس نابض فى الوجود من قيم جمالية يعمل الفنان على إبرازها، ويؤكد أن الذين يتوهمون أن الدين يعارض الفن يدلون على أنهم يسيئون فهم طبيعة الدين وطبيعة الفن، وهو ما تدل عليه فنون الدول الإسلامية صاحبة الحضارات الكبرى كالدولة العباسية والأموية والفاطمية ودولة الإسلام فى الأندلس، فيقول إن المسلمين الأوائل أدركوا علة تحريم بعض الفنون كالأمر مثلا بعد الرسم أو النحت خشية أن يرتد الناس إلى عبادة الأصنام، فلما زالت العلة وزال الخوف من عبادة الأصنام زال التحريم، وبناء على هذا التوجه المستنير ترى الإمام يجاهر بإعجابه بأغانى أم كلثوم والقصائد الشعرية التى تغنيها فتنمى الذوق وتكسر الغربة بين العامة واللغة العربية الهادفة بل تجده يعتبر صوتها «نعمة من نعم الدنيا»، كما تجده يجتهد فى تحقيق ديوان الشاعر المصرى البهاء زهير لما وجد فيه من خلق قويم ولغة شفافة صادقة، وحب الخير وشرف للنفس وعزة وإباء، بل تجده يكتب عن مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم وهو مازال مغمورا فيكون أول من كتب عن هذه المسرحية التى تلهب الخيال وتستلهم القصص القرآنى ليكون الدين وقصصه وتعاليمه شريكا للناس فى حياتهم يندرجون تحت لوائه بحب وارتياح وإيمان وخشوع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة