فى الوقت الذى تحاول فيه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، قيادة الغرب الأوروبى، نحو ملاحقة روسيا في المرحلة المقبلة، على خلفية قضية الناشط الروسى، ألكسندر نافالنى، بالإضافة إلى الوضع في أوكرانيا ودونباس وغيرهما، تتحرك موسكو بخطى ثابته نحو التقارب مع محيطها الأوروبى، عبر العديد من الأدوات، ربما على رأسها الغاز، عبر مشروع "السيل الشمالى"، والذى خلق رابطة قوية بينهما، من شأنها تحويل الخصومة التاريخية إلى تقارب تدريجى، يساهم بصورة كبيرة في تقليص الفجوة الكبيرة، في ظل معطيات أهمها الجرح الأمريكي الغائر بعد سياسة التخلي التي تبناها الرئيس السابق دونالد ترامب، تجاه حلفائه الأوروبيين، وبالتالي حاجاتهم لشركاء جدد، وإعادة هيكلة علاقاتهم الدولية في المرحلة المقبلة.
وعلى الرغم من أن كسر الجمود في العلاقة مع المحيط الأوروبى، يمثل اختراقا كبيرا للرئيس فلاديمير بوتين، خاصة إذا ما تعلق بالتقارب مع أعتى خصومه في القاره العجوز، وعلى رأسهم ألمانيا، عبر بوابة الغاز، إلا أنه لم يكن الانتصار الوحيد لموسكو، داخل منطقة تمثل بعدا عمقا استراتيحيا للغريم الأمريكي، حيث تبقى هناك العديد من الجوانب الأخرى، التي تمكنت من اختراقها، عبر تقديم نفسها، كشريك يمكنه القيام بدور في المساعدة لحل الأزمات الإنسانية التي قد تحل بدول أوروبا الغربية، وفى القلب منها أزمة تفشى فيروس كورونا.
روسيا لم تكتفى بانتهاج دبلوماسية الإغاثة التقليدية، في محاولة احتواء الأزمة، إثر تفشيها بصورة غير متوقعة في العديد من دول أوروبا، وإنما قامت بدورا بارزا، على المستوى العلمى، عبر تقديم لقاح "سبوتنيك"، والذى يمثل اختراقا دبلوماسيا مهما، على المستوى العلمى، يخلق بعدا جديدا للنفوذ الروسى، فى العديد من مناطق العالم، وهو ما بدا في إقبال العديد من الدول، سواء في إفريقيا وآسيا، على الاستعانة باللقاح، بينما تقترب أوروبا منه على استحياء، عبر مبادرات فردية قامت بها عدة دول، رأت أنه أحد الخيارات المتاحة، في ضوء سعره الرخيص، مقارنة باللقاحات الأمريكية، بالإضافة إلى كفاءته، والتي تصل إلى 90%.
فعلى الرغم من التعنت الأوروبى في التعامل مع اللقاح الروسى في بداية الأمر، إلا أن الوكالة الأوروبية للأدوية اتجهت نحو تغيير جزئى في موقفها عبر اختباره، وهو ما أكدت أنه سيكون تقييما موضوعيا يعتمد على المعايير التقليدية التي تتبناها القارة العجوز، وهو ما يمثل استجابة لضغوط أطلقتها دولا عدة أعلنت موقفا إيجابيا تجاه اللقاح الروسى، على رأسها إيطاليا، والتي دعت الاتحاد الأوروبى إلى الانفتاح عليه نظرا لفاعليته العالية، وهو ما يمثل شهادة مهمة لأحد دول التكتل القارى، بل وأعلنت انتاجه في الداخل، وهو ما يعد انتصارا مهما لموسكو.
الخطوة الإيطالية تأتى بعد أسابيع من الإعلان عن تحالف محتمل، بين اللقاح الروسى، ولقاح أسترازينيكا، والذى تنتجه شركة بريطانية، عبر المزج بينهما، في محاولة لزيادة فاعليته، في المرحلة المقبلة، لمكافحة الفيروس المتحور، بعدما فشلت لقاحات أخرى في التعامل معه في الفترة الأخيرة.
وهنا يمكننا القول بأن اللقاح الروسى أصبح أحد أهم أدوات الدبلوماسية الروسية، حيث يمثل نجاحه في دخول أوروبا الغربية، بالإضافة إلى كونه اختراقا علميا، على حساب قوى دولية عديدة، طالما نظر العالم إليهم باعتبارهم "أسياد العلم"، انتصارا دبلوماسيا مهما، من خلاله تقدم موسكو بعدا جديدا لمزاحمة واشنطن في مناطق نفوذها الرئيسية، وذلك بعد نجاحها في تحقيق ذلك سواء في الشرق الأوسط أو آسيا، لتصبح أوروبا أحد أهم مناطق "صراع النفوذ"، بين واشنطن وموسكو في المرحلة المقبلة.