ظهرت كوكب الشرق أم كلثوم فى مطار الخرطوم الساعة الثالثة بعد ظهر الأربعاء 25 ديسمبر 1968، وبعد تسعة أيام وفى الساعة الثالثة بعد ظهر الخميس 2 يناير 1969، ظهرت فيه عائدة إلى القاهرة، وفى التسعة أيام «عاشت الخرطوم مثل العروس فى ليلة الفرح»، حسب وصف الكاتب والناقد رجاء النقاش، الذى كان ضمن الوفد الصحفى المرافق لها، ويتذكر فى كتابه «لغز أم كلثوم» هذه الرحلة، وكذلك الكاتب الصحفى يوسف الشريف، ويكتب عنها فى كتابه «السودان وأهل السودان».
كانت «أم كلثوم» وقتئذ تجوب عواصم عربية، وسافرت إلى باريس لإحياء حفلات لصالح المجهود الحربى بعد هزيمة 5 يونيو 1967، وكان لحفلتيها فى السودان مذاق خاص، عكس توقعات البعض.. يذكر «النقاش» أنه كان هناك خوف كبير من عدم الإقبال على حفلاتها، فالذوق العام فى السودان يميل إلى الفنون الراقصة السريعة الخفيفة، ولا يطيق الصبر على فن مثل فن أم كلثوم، يحتاج إلى مزاج يتذوق الأغنية الطويلة، والسهرة الفنية التى تمتد إلى ساعات وساعات، ولكن الذى حدث أن هذه التنبؤات لم تكن فى موضعها.
يؤكد «الشريف»، أن أم كلثوم استطاعت فى لياليها بالسودان أن «تسودن أغانيها»، ذلك أن أغنياتها كانت ولأول مرة مزيجا بين السلم الخماسى فى الموسيقى السودانية، والسلم السداسى فى الموسيقى العربية.. وكانت زيارتها حدثا ثقافيا مقدرا يفوق كل إنجازات أجهزة الإعلام والثقافة والدبلوماسية المصرية منذ استقلال البلدين فى الخمسينيات «القرن الماضى».
يكشف «النقاش» أن عبدالماجد أبو حسبو، وزير الثقافة والإعلام فى حكومة «المحجوب» الائتلافية بين حزبى الاتحادى والأمة عام 1968، كان صاحب فكرة وإعداد هذه الزيارة.. ويصفه «النقاش» بأنه «فنان وشاعر ومن عشاق صوت أم كلثوم، وتربى فى مصر حتى أتم تعليمه الجامعى فى كلية الحقوق، وتزوج من زميلة مصرية له»، وكان صديقا للكاتب والفنان والشاعر عبدالرحمن الخميسى، حسب تأكيد «الشريف»، يكشف «أبو حسبو» فى حوار للنقاش، أنه حين جاء وزيرا للإعلام كان أول شىء فكر فيه هو إقناع أم كلثوم بالحضور إلى السودان..يؤكد: «كنت وأنا أفكر فى هذا الأمر أشعر بأننى أقوم بمغامرة كبيرة، لأن السودانيين لم يتعودوا على الاستماع للأغنية الطويلة، وهم مشهورون بحبهم للأغانى المصرية الخفيفة السريعة».. يضيف: «توقع البعض أن الناس فى السودان لن يستجيبوا لأم كلثوم ولن يتجاوبوا معها، ولكننى بالرغم من ذلك كله تحملت المسؤولية، إيمانا منى بأن الشعب السودانى شعب ذواق للفن الرفيع».. يذكر «أبو حسبو» أنه عندما فكر فى دعوتها أرسل إليها خطابا حمله «عثمان الحضرى» سفير السودان فى مصر، وذهب هو وزوجته إليها فى فيلتها ليسلمها الخطاب المؤرخ بتاريخ 18 مارس، مثل هذا اليوم، 1969، ونصه:
«عزيزتى السيدة الجليلة أم كلثوم.. من الخرطوم وباسم الشعب السودانى العربى، أحيى فى شخصك الكريم الحبيب الثورة الوطنية الفنية الكبرى فى الأسرة العربية، والتى حملتِ مشعلها فى أحلك الظروف، وقدتِ الطريق حتى أرسيت بوطنيتك وحماستك وشجاعتك قاعدة النضال بالنغمة الحلوة، واللحن العذب، والصوت الجميل القوى، فجعلت من الفن رسالة ترسيخ لمفاهيم العروبة والوطنية واسترداد الحق المسلوب فى الوطن العربى.
لقد كان لصولاتك وجولاتك فى هذا الميدان أثر لا حدود له فى نفوس الشعوب العربية، وفى مقدمتها الشعب السودانى الذى يفخر بك ويعتز، ويتطلع إليك لمواصلة كفاحه فى دعم القضية العربية منذ يونيو 1967، ذلك الكفاح الذى بلغ فى بلادنا قمة الجهاد، وذلك عن إيمان لا يتزعزع بأن إزالة آثار عدوان 1967 لم تعد مسؤولية الدولة وحدها ولكنها فى السودان مسؤولية ضخمة، يشكل فيها الشعب قاعدة قوية متينة تقف عليها الدولة وترتكز.
ومن أجل هذا تحدثت مع زميلى الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة فى مصر، ونقلت إليه رغبة السودان حكومة وشعبا فى زيارتك لبلادنا ضمن جولتك الميمونة فى العالم العربى لدعم المجهود الحربى، وسرّنا قبولك الدعوة فى إبريل، ولكن تأكيدا بذلك لم يصلنا حتى الآن، وإذا سمحت فإننى أنصح بأن شهر إبريل قد لا يكون مناسبا لأنه بداية الحر، ولو أنه قد لا يكون شديدا، ولكن حرصنا على شخص غال مثلك جعلنى أوجه انتباهك إلى هذه الحقيقة، وفى رأيى أن الفترة من نوفمبر 1968 إلى يناير 1969 قد تكون أنسب، ولا يفوتنى أن أقرر أن إبريل ليس سيئا للحد الذى ذكرته، غير أننى فى الوقت نفسه أترك لشخصك الكريم ولزميلى الدكتور ثروت عكاشة وسفيرنا فى القاهرة تحديد الزمن الذى ترين، أما المكان فهو المسرح القومى فى أم درمان، وهو أعظم وأكبر مسرح مفتوح فى أفريقيا، والتسهيلات اللازمة ستوفر بأكمل صورة حتى يستمتع شعبنا بوجود شخصك المحبوب بيننا».