بعض الناس يرتدى موضة من موضات الانفلات العقلى والفكرى التى هى أشبه بموضات من الملابس التى لا أدرى كيف تفكر عقول من ابتدعها، كتلك الملابس الممزقة التى هى أشبه بملابس أصحاب الفاقة من الشحاذين الذين يعذرون لفقرهم، فبدت هذه النوعية من الملابس دليلا على ثراء من يرتديها، وتباع بأثمان باهظة، والعجب لمن يدفع فيها ماله فوق العجب ممن يبيعها، مثلها الملابس المظللة وكأن مرتديها طفل صغير لا يحسن قضاء حاجته، وأخرى ساقطة الوسط.. وإذا كان هذا العته غير مستساغ من عقلاء الناس الذين ينظرون إلى لابسى هذه الثياب نظرة الامتعاض وربما الاشمئزاز، فإن ما يردده بعض حاملى راية الفكر والثقافة زورا من أن حق كل إنسان أن يفتى نفسه هى أَولى بنظرة الاحتقار والاشمئزاز والرفض، وهو ما يجده كل حريص على دينه، غيور على شريعته فى نفسه حين يسمع قولهم هذا.
وإذا كان شأن الملابس فى النهاية قد يدخل فى دائرة اختلاف الأذواق حتى لو جنح عن المألوف لغالب الناس، فإن شرع الله ليس كلأ مباحا لكل من هب ودب وأراد أن يحقق شهرة ولو كان على حساب الدين، فلم يقل عالم واحد من بين من عرفهم الناس خلال قرون مضت من تاريخ إسلامنا بأن من حق الإنسان أن يفتى نفسه، بل أجمع علماؤنا على اختلاف عصورهم ولغاتهم وثقافاتهم على أن الناس يحتاجون لعلماء يعرفون قواعد الإفتاء وضوابط الفتوى، وأن الفتوى صناعة دقيقة لا يقوى عليها إلا الراسخون فى جملة من العلوم، منها علوم اللغة والتفسير والحديث قبل الفقه وأصوله، ومعرفة واقع الناس وأعرافهم واختلاف أحوالهم، ويعلم طلاب علوم الشريعة قبل علمائها أنه لم يكن صحابة رسول الله الذين يجالسونه ويسمعون عنه كلهم ممن يستطيع أن يفتى نفسه أو غيره، بل كانوا يسألون رسول الله إن كانوا يجدون سبيلا إليه، وتجد فى كتاب الله بعض هذه الأسئلة :{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} وهذه الأسئلة لم يكن حتى عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الإجابة عنها، بل علِمها عن ربه الذى أجابه عن بعضها لينقل لهم الإجابة، وأعلمه أن أمورا لا يصح السؤال عنها :{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فإن كان الصحابة بعيدين عن رسول الله فى الأسفار أو استقر مقامهم بعيدا عن مدينته سألوا العلماء منهم فأفتى بعضهم ونأى عن الإفتاء بعضهم الآخر، ما لم يضطر لذلك ، حيث لم يجد السائل من يفتيه غيره فيفتيه وهو كاره تحوطا وورعا وتهيبا، فعُرف من الصحابة المكثر من الفتوى والمقل، وإذا كان حال الفتوى فى عهد من نزل عليه الوحى كذلك من التحوط والحذر مع وجود رسول الله بين صحابته وإمكانهم الرجوع إليه للاطمئنان على ما أصدروه من فتاوى، فكيف يتبنى هؤلاء فى زماننا منهجا يجعل من الفتوى كلأ مباحا لكل من أراد التقاطه؟!
إنَّ الفتوى صناعة دقيقة علمنا من كتاب ربنا أنَّها اختصاص فئة من الناس دون غيرهم، حيث قال الله عز وجل : «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»، فهذا نفى لها عن عموم المؤمنين، وتخصيص لفئة تفقَّهت فى الدين، وقال :{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} فهل كلُّ إنسان له القدرة على الاستنباط ويعرف قواعده ؟! أليست الآية دالة على أن تمكين غير القادرين على الاستنباط من الإفتاء إيقاع للناس فى براثن الشيطان؟!
ولعل الذى أوقع هؤلاء فى هذا المسلك الخاطئ ما تطرق إليهم من فهم خاطئ لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «...استفت قلبك...» وقد وردت هذه العبارة فى وصيّة لصحابى جليل هو وابصة بن معبد - رضى الله عنه – حيث قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألت عنه، فقال لى: ادن يا وابصة، فدنوت منه؛ حتى مست ركبتى ركبته، فقال لى: «يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُنِى عَنْهُ، أَوْ تَسْأَلُنِى؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبِرْنِي، قَالَ: «جِئْتَ تَسْأَلُنِى عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِى صَدْرِي، وَيَقُولُ: «يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِى الْقَلْبِ، وَتَرَدَّدَ فِى الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ»».
ولا يصح الاستدلال بهذا الحديث واعتباره مؤصلا لإفتاء الإنسان لنفسه؛ حيث إنه مختلف فى درجته؛ فقد ضعفَّه بعضهم، والفتوى تتعلق ببيان وإظهار الأحكام الشرعيّة كما أرادها شرعنا الحكيم للسير على هداها؛ فلا تبنى على الضعيف، وعلى فرض قوته وصلاحيته للاستدلال فليس معناه كما فهمه هؤلاء، فهو لم يتعرض لذكر الفتوى وإنما الحديث عن معرفة البر والإثم أو الخير والشر، ولما رأى رسولنا خوف وابصة من الوقوع فى الإثم أو الشر وحرصه على ملازمة البر، هوّن عليه وأعطاه قاعدة: وهى أن البر ما ارتاحت له نفس المؤمن وأدركه عقله، وأن الإثم ما لم ترتح له نفس المؤمن وصاحب الضمير اليقظ، وهذا أمر عام فى الحكم على الأشياء ما لم يكن للشرع فيها بيان، والفتوى ليست كذلك فلها رجالها الذين يقدرون بعد استخدام أدوات معينة على إصدارها، ولم يقل واحد من شراح الحديث أن كل أحد من حقه أن يفتى نفسه بل قالوا: إن المسلم إذا استفتى العالم عن شىء من أمر دينه فأُفتى أنه من الحلال فلم تطمئن نفسه لذلك، فإن الأولى أن يدع ما يحز فى نفسه، وهذا الاستفتاء إنما هو فيمن اطمأن قلبه بالإيمان، وسكنت نفسه بالتقوى – كالصحابة، ومن هو على نهجهم فى التقوى والورع، وليس معنى الحديث أن مسائل الحلال والحرام تأخذ بفتوى العامة، بل لا بد فيها من سؤال أهل العلم، والأخذ بما يقولون، وهذه بعض نصوصهم.
قال العلامة المناوى: استفت نفسك المطمئنة الموهوبة نورا يفرق بين الحق والباطل، والصدق والكذب.
وقال القرطبى: لكن هذا إنما يصح ممن نور الله قلبه بالعلم، وزين جوارحه بالورع، بحيث يجد للشبهة أثرًا فى قلبه، كما يحكى عن كثير من سلف هذه الأمة.
وقال ابن علان الصديقى صاحب دليل الفالحين: (وإن أفتاك الناس) أى غير أهل الاجتهاد من أولى الجهل والفساد وقالوا لك إنه حق، فلا تأخذ بقولهم لأنه قد يوقع فى الغلط وأكل الشبهة ...). وهذا الفهم الصحيح لمعنى الحديث يبين مدى شطط أصحاب هذا المذهب الباطل، وخطورة الطرح الذى يطرحونه، والذى ينظر إليه البعض على أنه فتح لم يسبقوا إليه وما هو إلا تخريب وهدم لأحكام شرعنا الحنيف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة