حالة من التنافس باتت تلوح في الأفق، بين القوى الدولية المتصارعة على عرش النظام العالمى، وهو ما يبدو واضحا الصراع الكبير بين الولايات المتحدة، وخصومها الدوليين، وعلى رأسهم الصين وروسيا، بينما تحاول عدة قوى أخرى الدخول على خط المنافسة، على غرار دول الاتحاد الأوروبى، وبعض القوى الآسيوية، كاليابان والهند، وغيرهم، ليصبح العالم على أعتاب مرحلة جديدة، تعد بمثابة "إرهاصات" لنظام جديد من شأنه إنهاء الأحادية التي هيمنت على العالم طيلة السنوات الماضية.
ولعل التنافس الدولى في المرحلة الراهنة، تحمل مسارات متوازية، أحدهما صراعى، عبر إطلاق التصريحات العدائية، والمواقف المناهضة للخصوم، بينما تحمل وجها مهادنا في مسار أخر، وهو الأمر الذى يمكن ترجمته، على سبيل المثال، في الموقف الأمريكي من روسيا، في ضوء التصريحات النارية التي أطلقها الرئيس جو بايدن، بحق نظيره الروسى فلاديمير بوتين، والذى وصفه بـ"القاتل"، بينما اتسم الرد الروسى بقدر كبير من السخرية والإساءة للرئيس الأمريكي.
إلا أن النهج العدائى الأمريكي تجاه موسكو، حمل وجها مغايرا، على الأقل جزئيا، تجاه الصين، وهو ما يبدو بوضوح في التغير الجذرى الذى شهده الخطاب الذى تتبناه واشنطن نحو بكين، في المرحلة الحالية، وخاصة بعد حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، والذى آثر تحويل المنافسة الاقتصادية مع "التنين" الصينى، إلى ما يشبه "الحرب الاقتصادية"، والتى حذر قطاع كبير من المحللين من تداعياتها، التي قد تأكل الأخضر واليابس.
يبدو أن تحول "شعلة" العداء من الصين إلى روسيا، له أسبابه السياسية، في ظل الرغبة الملحة من قبل الرئيس الديمقراطى، في تقويض إرث سلفه دونالد ترامب، في إطار معركة سياسية حامية الوطيس، بدأت منذ عهد الإدارة السابقة، بينما مازالت لم تنته بعد، في ظل المخاوف الكبيرة لدى الإدارة الحالية، والحزب الديمقراطى، من عودة محتملة للرئيس السابق، والذى لم يخفى رغبته في العودة من جديد إلى الواجهة السياسية، مستندا على شعبية طاغية، لم يسبقه إليها أي رئيس أمريكى سابق.
وهنا يمكننا تفسير المهادنة الأمريكية للصين، من الناحية السياسية، في إطار محاولات تقويض إرث ترامب، إلا أنه في حقيقة الأمر يحمل في طياته جانبا مهما في الصراع على قمة النظام الدولى، حيث تبقى العلاقة القوية بين الصين وروسيا بمثابة تهديد صريح للمكانة الأمريكية، في المستقبل، وبالتالي فإن تجريد موسكو من الحليف الصينى، يمثل أولوية مهمة للرئيس بايدن، لإضعاف اللبنة، التي يمكن من خلالها خلق معسكر دولى قوى، يمكنه المعسكر الغربى، الذى يعانى من التفتت جراء ابتعاد أوروبا الغربية، على الأقل جزئيا، عن القيادة الأمريكية في المرحلة الراهنة، بسبب سياسات ترامب، والتي قامت في الأساس على شعار "أمريكا أولا"، وما نجم عنها من تخل صريح عن الحلفاء، خاصة على المستوى الاقتصادى، ناهيك عن التلويح المستمر بنزع الحماية الأمنية عنهم.
الصراع الأمريكي الروسى، والذى تحاول واشنطن إحيائه من جديد، يحمل وجهان متوازيان، أولهما حرب من التصريحات العدائية، والمواجهات السياسية، وهو ما يمثل تكرارا لمشاهد الماضى في العلاقة بين البلدين، من جانب، بينما يحمل في وجهه الأخر صراعا على استقطاب الصين في المرحلة المقبلة، حيث يبقى متوقعا أن تتبنى الولايات المتحدة نهجا من شأنه استرضاء بكين، بينما ستسعى موسكو إلى تدعم أسس التحالف مع الصين، لتقوية معسكرهما في المستقبل.