يملك الدكتور يوسف زيدان مشروعا تنويريا واضحا، هذا أمر لا خلاف عليه، ويأخذ هذا المشروع أشكالا متعددة، منها الكتابة الفكرية، والإبداع الروائى والقصصى، وتحقيق كتب التراث، والمشاركة فى الندوات الثقافية والبرامج التليفزيونية، وحتى الجلسات الفكرية الخاصة التى تجمعه بتلاميذه، ولا أستبعد البوستات على مواقع التواصل الاجتماعى، هذا التنوع "مفيد" فى تكوين صورة مكتملة لأفكار يوسف زيدان، والتى كانت آخر حلقاتها روايته "حاكم.. جنون ابن الهيثم" الصادرة عن دار نشر بوك فاليو.
أول ما يصلك من الرواية أن التاريخ المصرى حافل بأحداث كبرى وحكايات جمة، تشكل فى مجملها حلقات حضارية علينا فهمها ومعرفتها، ومن أهم الحلقات تلك المتعلقة بـ عصر الدولة الفاطمية، لقد جاء الفاطميون إلى مصر، ومن الواضح أنهم أحبوها، فقد كان قادتهم يعرفون مكانتها ودورها، وعلى الرغم من كون الرواية ترصد حياة الحاكم بأمر الله، لكنه تحيط بمن قبله وبعده، وتخرج من إطار القصور إلى الحوارى والشوارع، وتتوقف أمام الظروف السياسية والاقتصادية لمصر فى ذلك العهد.
تنتمى رواية "حاكم" إلى ما يمكن أن نطلق عليه رواية الإطار، إن صح التعبير، فلدينا حكايتان، الأولى قصة راضى وأمنية، وهى قصة معاصرة تدور فى زمننا الراهن، بدأت فجأة وانتهت فجأة أيضا، وذلك لأنها ليست مقصودة فى حد ذاتها، فهى وسيلة من خلالها نصل إلى المتن الحقيقى للرواية.
الحكاية الثانية، قصة "مطيع السهمى" حفيد عمرو بن العاص، فاتح مصر، حيث يقدم لنا راضى "مخطوطة" عثر عليها فى بيتهم القديم فى صعيد مصر، وهى مخطوطة غير "مبيضة" لذا بها تعليقات وأحوال مفيدة فى فن الرواية بشكل كبير، يتجاوز مجرد الحكاية.
ترصد المخطوطة حياة "مطيع" وتتقاطع مع "منصور" بن العزيز بالله الفاطمى، منذ كانا طفلين يدرسان معا، ثم يكبران فيصبح أحدهما مهتما بالكتب والزراعة ويصبح الثانى حاكم مصر القوى الذى تضرب به الأمثال، وترصد التحولات والتغيرات التى أصابت الشخصيتين، بل إنها ترصد التحولات والتغيرات التى أصابت مصر كلها فى تلك الفترة.
بالطبع سوف تستوقفك شخصيتان مهمتان فى الروية، الأولى هى الحاكم، والشخصية الثانية هى ابن الهيثم، أما الحاكم فتظل طوال الرواية تحاول فهم تصرفاته، إنه ليس ظالما بل عادل جدا، ولكنه حاد مثل شفرة قاطعة، ووراء كل تصرفاته الغريبة يوجد سبب، لكن عقولنا تقول إن هذا السبب لا يتناسب والعقاب، هذا من وجهة نظرنا، أما وجهة نطر الحاكم، الباحثة عن الكمال والشاعرة بالخطر، فإن السبب التافه يكفى لوضع قانون قاطع.
وطالما ذكرنا الحاكم حتما تأتى "ست الملك" سيدة قوية كما نتخيلها، تملك عقلا قادرا على الإدارة، وتملك حنكة وحكمة تليق بسياسية مخضرمة، استطاعت أن تحمى عرشا وسط عواصف محيطة.
أما الشخصية الثانية فهو الحسن ابن الهيثم، وعلى الرغم من ظهورها المتأخر فى الرواية، لكنه ظهور يليق بنجم، فهو يضيء كل الصفحات يزينها بفكره ومنطقه وعلمه، وبعدما ننتهى من الرواية نشعر به متجسدا يقرأ فى متون الكتب أو يراقب من فوق سطح بيت قديم حال السماء ويقلب عينيه فيها.
امتلك الحسن ابن الهيثم رحلة غنية بدأت من العراق وانتهت فى مصر، ادعى فيها الجنون مرتين، ولم يخذله هذا الادعاء أبدا بل أنقذه، لقد حاول أن يبنى سدا على نهر النيل يحفظ مصر، ولكنه لم يستطع، وخشية من الحاكم ادعى الجنون، وبالطبع فإن الحاكم قد فهم "اللعبة" لكنه جاراها، اعترافا بفضل ابن الهيثم، ولأن العالم الكبير قد التزم بالشروط الصعبة، فلم يغادر بيته حتى رحيل "الحاكم"، هذا الرحيل غير المحسوم، حتى أن "يوسف زيدان" قدم الآراء المتعددة التى قيلت فى هذا الشأن، ولم ينتصر لأى منها.
لقد استطاع يوسف زيدان أن يبث حيوية فى الشخصيات، وأن يمنحها قدرة حقيقية على الفعل، كما أن المخطوطة التى لجأ إليها بوصفها "فنا روائيا" كانت قادرة على وضع مصداقية على كل التفاصيل الواردة فى متنها.
أما عن الأفكار التنويرية التى قصدها "يوسف زيدان" من الرواية، فقد كانت مبثوثة فى الحوارات، وخلف الحكايات، وحتى فى اختيار الحسن ابن الهيثم بطلا للرواية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة