تمر، اليوم، ذكرى ميلاد الزعيم المصرى أحمد عرابى (1841-1911) الذى قاد الثورة العرابية ضد الخديو توفيق، ووقف فى وجه القوات البريطانية حتى هزيمته فى سنة 1882، لكن ماذا نعرف عن الطفل "أحمد عرابى" ونعتمد فى معلوماتنا على كتاب "أحمد عرابى الزعيم المفترى عليه" لـ محمود الخفيف.
يقول الكتاب تحت عنوان "الصبى القروى":
نحن إذ نتكلم عن أحمد عرابى تعوزنا المصادر التى يمكن أن نعلم منها الكثير عن سيرته وخلاله فى طفولته، وقصارانا أن نقول إنه ولد فى شهر مارس سنة 1841 فى هرية رزنة، وهى قرية بالشرقية تقع غير بعيد من مدينة الزقازيق.
ونشأ الصبى القروى كما ينشأ الآلاف مثله فى قرى مصر على نمط من العيش لا نحسبه يختلف كثيرًا أو قليلًا فى قرية عنه فى أخرى من هاتيك القُرى التى نبتت منذ الأزل على ماء النيل.
نشأ فى هذه القرية الصغيرة ذلك الصبى الذى قُدِّر له أن يجرى اسمه يومًا ما على كل لسان فى مصر، والذى صارت حياته فيما بعد فصلًا من تاريخ وطنه، والذى تداولت اسمه ألسن الساسة فى إنجلترا وفرنسا دهرًا طويلًا، والذى أجبر الخديوى على النزول إليه، حيث وقف على رأس الجيش يوم عابدين ليُسمعه كلمة الأمة، والذى يحتل جهادُه أبرزَ مكان فى كل كتاب تناول ما تعارف المؤرخون على تسميته المسألة المصرية.
ودرج الصبى القروى بين أصدقائه فى هرية رزنة عُرضة للأوبئة المختلفة، يحيط به فى قريته الجهل والفقر والمرض أينما اتّجه، ولا يجد حوله من مظاهر الحياة والعمران مثل ما يجده من ينشأ فى مدينة كبيرة أو يتلقَّى العلم فى مدرسة منظمة.
وكان أبوه محمد عرابى شيخ هرية رزنة، أو على الأصح أحد "مشايخها" على حد الاصطلاح الإدارى، فكانت تقسم القرى فى تلك الأيام أقسامًا يُسمَّى الواحد منها "حصة"، ويعين على كل حصة شيخ يختار لبروز شخصيته إما بالثراء أو بالقوة أو بالاستنارة بشىء من التعليم أو بها جميعًا، ولم تكن وظيفة العمدة على النحو القائم فى القرى الآن قد عُرِفَتْ بعدُ.
ويذكر عرابى عن أبيه فى مذكراته أنه كان "شيخًا جليلًا رئيسًا على عشيرته عالمًا ورعًا تقيًّا نقيًّا موصوفًا بالعفة والأمانة"، ونراه عند ذكر نسبه يعدّد آباءه حتى يصل إلى السيد صالح البلاسى، فيذكر أنه ينسب إلى بلاس، وهى كما يقول قرية صغيرة ببطائح العراق، كما يذكر أنه أول من هبط مصر من أجداده، وأنه تزوج بالسيدة صفية شقيقة السيد أحمد الرفاعى الصيادى، وما يزال عرابى يرتقى بنسبه إذ يذكر آباءه بعد البلاسى هذا حتى يصله بالإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام على الزاهر زين العابدين بن الإمام الحسين (رضى الله عنه).
ويذكر عرابى كذلك فيما يذكره من أنباء والده قوله: "وكان قد أمر والدى بترتيب درس فقه فى المسجد الذى جدَّده للعامة بعد عصر كل يوم وبعد صلاة العشاء فتفقّه عامة أهل البلد فى دينهم، وصحت عبادتهم، وحسن حالهم بفضل قيام المرحوم والدى على تعليم قومه وأهل بلده".
وأدخله أبوه مكتب القرية وهو كما يقول من منشآته فيها، وفى هذا المكتب فُتحت عينا الصبى على نور العلم، فحفظ شيئًا من القرآن الكريم وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة.
ويمكننا أن نتصور حال هذا الصبى فى أول عهده بالتعليم قياسًا على ما نعرف من حال أمثاله من أبناء المكاتب فى كل قرية، وهى حال تكاد أن تكون فى القرى جميعًا واحدة، فلا فرق بين مكتب ومكتب إلا بقدر ما يكون من فرق بين قرية وقرية.
فهذا صبى فى جلباب طويل من القطن أو التِّيل وفوق رأسه قلنسوة، يخطر بين صِبْية مثله إلى المكتب وتحت إبطه لوح من الصفيح وبيده مِحبرة فيها الأقلام الغاب خزانة، أو هى محبرة ذات "مقلمة" كما يقول أبناء المكتب، وهو لا يمتاز عن بقية الصبية فى شىء إلا بما عسى أن يكون فى قدميه من نعل، لأنه ابن شيخ البلد، وأكثرهم حفاة، وما يحضر فى جيبه من فطائر يأكلها متى جاع، أو يدفعها إلى "الفقيه" على جوعه، فى حين لا يوجد فى جيوب لِدَاتِهِ إلا الخبز اليابس.
وفى المكتب يجلس الصبى على الأرض بين أقرانه، ولعل العريف يرفعه درجة فيجلسه على حصير أو على دكّة من الخشب ثم يكتب له بعض كلمات فى لوحه ليكتب مثلها، أو بعض أرقام الحساب ليقلِّد رسمها، فلا يضع لوحه إلا حين يتلو العريف على الصبية بعض سور القرآن الصغيرة جملةً فجملةً، فيرددون ما يتلو فى نغمة مثل نغمته، ويردد الصبى كما يفعلون، ولكنه أفصح منهم لسانًا وأسرع حفظًا، فالفصاحة هى أول ما يظهر من صفات ذلك الصبى وبها يتحدث العريف إلى أبيه!
وتعهده صرّاف القرية كذلك ميخائيل غطّاس فعلمه مبادئ الحساب، وكان تعلُّم الحساب يحدث عادة على يد هؤلاء الصيارفة، وبخاصة لأبناء المشايخ الذين يتّصل بهم هؤلاء ويحرصون على مودَّتهم ورضائهم.
ومات أبوه وهو فى الثامنة من عمره، ولكن يُتْمه لم يَحُلْ بينه وبين أن ينال قسطًا من التعليم فى الأزهر، فقد أرسله أخوه الأكبر محمد عرابى إلى هناك عسى أن يكون عالمًا من علمائه، ولكن الصبى لم يلبث بالأزهر إلا أربع سنوات تعلم فيها على طريقة الأزهر يومئذ شيئًا من الفقه والتفسير والنحو، وحفظ الصبى القرآن بالضرورة كما يفعل من يلتحقون بهذا الجامع العتيد.
وعاد الصبى إلى قريته ولسنا نعلم ما الذى حمله على العودة، أكان ذلك نفورًا من التعليم وركونًا إلى البطالة، أم كان لرغبة منه فى أن يسلك فى الحياة سبيلًا غير سبيل الأزهر؟ ذلك ما لا نستطيع أن نتبيَّنه على وجه اليقين. وكان من الممكن أن يعيش هذا الصبى القروى بقية عمره فى تلك القرية زارعًا ثم يموت فيها كما يعيش ويموت سواه من الفلاحين.
ولكن الأقدار تخرجه بعد قليل من القرية ليغدو فيما بعد رجلًا من رجال مصر، بل ليكون أول مصرى فلّاح ينطق بحق مصر وتتمثّل فى حركته الروح القومية لمصر وقد استيقظتْ من سُبات طويل، وأخذت تنفض عنها غبار القرون، أجل أخرجت الأقدار هذا الفلّاح من قريته ليقف وجهًا لوجه تلقاء خديو مصر يعلن إليه فى بسالة وفى غير طيشٍ أن «أهل مصر ليسوا عبيدًا، وأنهم لن يورَّثوا بعد اليوم»، ويفتتح بهذه الوقفة وبهذه الكلمة فصلًا جديدًا فى تاريخ هذه البلاد، فيكون فضله فضل الرواد يخطون الخطوة الأولى فيظل لهم الفضل ويظل لهم الحمد وإن اتَّسَعَت بعدهم الخطوات وتوالت الوثبات، وما نحسب خطوة عرابى فى طريق الحرية والقومية كانت أقلَّ خطرًا من وثبة سعد، ذلك الفلاح الذى نهض من بعده والذى غضب مثل غضبته ووثب مثل وثبته واتجه نفس وجهته، ولكنه لم يكن من رجال السيف فلم يشهر إلا القلم سلاحًا، ولم يمتط إلا أعواد المنابر مجاهَدَةً وكفاحًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة