تحفل مصر بتراثها الكبير العظيم فى كل شئون الحياة، فى الثقافة والعمارة والفنون، ومن ذلك قصر العينى، الذى نعرفه كأشهر مستشفى فى مصر، ولكن كيف كانت بداياته، ونعتمد فى ذلك على كتاب "موسوعة تراث مصرى الجزء الثانى" لـ أيمن عثمان.
كان قصر المملوك الثرى الأمير شهاب الدين أحمد بن العينى أحد هذه الروائع التى بنيت فى العصر المملوكى، وبناه على شاطئ نيل جزيرة الروضة عام 1466م فى عهد السلطان المملوكى - الرومى الأصل- الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خشقدم، وللأسف تم تفكيك هذا القصر، ولم يبق منه إلا وصف له ولمكانة صاحبه ذكره ابن إياس بحكم معاصرته للعينى ولفترة بناء القصر، وصورتان لجامع وقبر ابن العينى، وصورة لتكية بناها البكتاشيين، وسطر تاريخى يتيم فى أحداث مقتل الجنرال كليبر، وحكاية أنقاضه للحكاء خيرى شلبي، ومدرسة للطب تأسست عام 1837م.
قصر العينى
فى "متنزهات القاهرة فى العصرين المملوكى والعثمانى" للدكتور محمد الششتاوى، ذكر أن منشأة المهرانى - اسم جزيرة الروضة قديمًا - عمرت عمارة عظيمة بعد أن أنشأ فيها الأمير شهاب أحمد بن العينى قصرًا عظيمًا يطل على النيل بجوار بساتين جانى بك، وكان هذا القصر والبساتين حوله متنزهات للسلاطين والولاة والأمراء والناس جميعًا فى العصرين المملوكى والعثماني.
ووصف المؤرخ ابن إياس القصر بقوله «وقصر العينى بناية مربعة الشكل تحيط بها المتنزهات الجميلة، وله طابقان غير الطابق الأرضى، وكل الأجنحة فيه عبارة عن صفين من الغرف يفصل بينها دهاليز على طول امتدادها، وكل جناح ينقسم إلى أربع غرف – لمماليك ابن العينى- فى كل غرفة خمسون سريرًا، والطابق الأرضى عبارة عن مغاور معقودة -طرقات متداخلة- تصلح مستودعات ومخازن، وفى وسط البنيان صحن فسيح جدا مغروز بالأشجار، وفى الجناح القبلى أربع بنايات كبيرة مفصولة بعضها عن بعض، الأولى خاصة بالمعامل الكيميائية وغرف الطبيعة والتاريخ الطبيعى، والثانية لمحلات النوم وغرف الطعام، والثالثة للصيدلية العمومية، والرابعة للمطابخ والحمامات والمغاسل".
من وصف ابن إياس والششتاوى يتضح أن أحمد بن العينى كان ثريًا يمتلك المئات من المماليك، ومقربًا من السلاطين والأمراء، ومحبوبًا من الناس، وعالمًا فى الطبيعية والكيمياء والصيدلة، ولا عجب أن يضيف ابن إياس عن مكانة الرجل "فى سنة ٨٧١ هجريًا ١٤٦٦-١٤٦٧ تزايدت عظمة المقر الشهابى أحمد بن العينى، وصار صاحب الحل والعقد فى الديار المصرية، وهو الذى أنشأ القصر العظيم المطل على البحر بمنشية المهرانى، ولما كملت عمارة القصر نزل السلطان خشقدم إليه".
وشهد قصر ابن العينى العديد من الأحداث، فقد كان مقرًا للحكم أواخر عصر خشقدم، ومقرًا للحكم لبعض الوقت حين حل ضيفًا عليه السلطان العثمانى سليم الأول بعد احتلاله مصر، وكان مقرًا لحكم المملوك إبراهيم بك، ثم مستشفى عسكرى محصن للفرنسيين أثناء الحملة الفرنسية بعد هروب إبراهيم بك، ومنه شيع جثمان الجنرال كليبر، وأصبح قصرًا للضيافة بعد أن رممه محمد على باشا، وأخيرًا هدم القصر وأعيد بنائه كمستشفى ومدرسة للطب تحمل اسم "القصر العينى".
ضاق مستشفى أبو زعبل المركزى بالمرضى والطلبة، ورأت الدولة أنها بحاجة إلى مكان أوسع وأقرب للحامية العسكرية فى المحروسة، فقرر محمد على باشا منح قصر ضيافة أحمد بن العينى للهيئة الطبية لاستثماره فى بناء مستشفى عسكرى ومدرسة للطب تحل محل مستشفى أبو زعبل والمستشفى العسكرى بالأزبكية.
مستشفى قصر العينى
وبدأ التخطيط عام 1835 لهدم القصر القديم، وإقامة مبنى جديد يتناسب مع متطلبات المستشفيات الحديثة، وكما كان الاتجاه العام فى مصر متأثرًا بالمدرسة الطبية الفرنسية.. كان تشييد المستشفيات العسكرية متأثرًا بالنسق الفرنسي.
وسرد الحكاء الكبير خيرى شلبى فى رائعته "بطن البقرة" عن دقائق هدم القصر القديم، ووصف حزن الأهالى من هذا المشهد الذى سيحرمهم من مشاهدة قصر طالما شاهدوه منذ طفولتهم، وحدث بينهم وبينه ألفة واعتياد.
فى هذه الأثناء كان بينهم شيخ متصوف يسمى الشيخ على الوقاد، وهو شيخ له جذور مغربية، وحرفته التى يعمل بها تشكيل عيدان الخيزران كراس وترابيزات وأسرة، وكان الوقاد ذائع الصيت فى هذه الحرفة، وله شهرة كبيرة ودخل مادى ميسور ساعده على امتلاك قطعة أرض فى صحراء المماليك المجاورة لحى الجمالية وحى الدراسة مزروعة بالعديد من أصناف الفاكهة.. اندس الوقاد بين المشاهدين، وسمع مع من سمعوا حوارات المهندسين، وخطة الإزالة التى وضعوها، ولحسن الحظ كانت خطة مماثلة لتلك التى استخدمتها اليونسكو مع معبد أبو سنبل.. حيث النشر بحرص لقطع صغيرة وترقيم كل قطعة برقم يقابله فى الرسم المعمارى يسهل عملية تجميعه فيما بعد.
هنا دخل الوقاد وعدد من أثرياء ذلك الوقت فى مزايدة نظمتها الحكومة لشراء أنقاض قصر أحمد بن العيني، فرسى عليه المزاد، وجاءت عربات الكارو لتحمل القطع المنشورة، ونقلتها إلى أرضه بصحراء المماليك، وجاء المهندسون، وجمعوا القطع بجانب بعضها مرة أخرى، وأعيدت هيكلة القصر وبناؤه بشكله المعهود فى أرض الوقاد، وأعيدت أحواضه وأبوابه إلى مكانها على جدران القصر.
بعد عامين من البناء افتتحت مستشفى قصر العينى أبوابها للجمهور عام 1837، وبعد عام واحد افتتحت المدرسة، وكانت مدرسة الولادة أول الأقسام التى بدأ العمل فيها برئاسة "مسز لويلون" الحائزة على المركز الأول فى مسابقة جامعة باريس، ومدة الدراسة بها كانت خمس سنوات، وبعدها وزعن الخريجات على مديريات مصر المختلفة، وعملن مجانًا، وساعدن الحكومة فى تطعيم الأهالى ضد مرض الجدري.
فى ذلك الوقت عاد أفراد البعثة المصرية من الخارج، وعينوا فى قصر العينى متساوين بالأجانب فى الرتبة العسكرية "أميرالاي"، ومتساوين معهم فى الراتب "عشرة جنيهات شهريًا"، وقام كلوت بك بتخصص كل منهم، فكان الرشيد للطبيعة والكيمياء، والشماس والهيهاوى للتشريح، وبخيت للبيلوجيا، والنبراوى للجراحة، والشافعى والسكرى والبقلى للتدريس فى مدرسة الطب.
لعشر سنوات كانت مدرسة الطب خرجت لمصر 800 طبيب مؤهل فى مختلف الأقسام والعلوم، وزار أثناءها الخبير الشهير مستر لاليماند المدرسة بناء على طلب من إبراهيم باشا لدراسة أحوال المدرسة، وكتابة تقرير وافٍ عن الطلبة بعد امتحانهم، فكتب فى 2 ديسمبر 1848 "لقد امتننت جدًا من امتحان طلبة الطب فى الأيام الثمانية، وفى ظنى أنه لو تقدم طلبة من الفرنسيين فى مثل هذه الظروف، وبعد هذه المدة لما كانوا أسبق من المصريين فى مثل هذا الامتحان، وبين هؤلاء الطلبة من أعدهم فخرًا لأى جامعة أوروبية، وكثيرون يستحقون البعث لأوروبا كى يعودوا أساتذة أكفاء وأطباء ماهرين".