نواصل إلقاء الضوء على كتب المثقف الكبير أحمد أمين (1886 – 1954)، الذى يعد واحدا ممن خدموا الثقافة المصرية والعربية والإسلامية خلال النصف الأول من القرن العشرين، ولا تزال كتبه مرجعا للمتخصصين والعامة من الباحثين عن الثقافة، ونتوقف اليوم مع كتابه "حياتى" الذى صدر 1950.
يقول أحمد أمين فى مقدمة الكتاب:
لم أتهيب شيئًا من تأليف ما تهيبت من إخراج هذا الكتاب، فإن كل ما أخرجته كان غيرى المعروض وأنا العارض أو غيرى الموصوف وأنا الواصف، وأما هذا الكتاب فأنا العارض والمعروض والواصف والموصوف، والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة، والشىء إذا زاد قربه صعبت رؤيته، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أو صديق، أو بمحاولة للتجرد تم توزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما أشق ذلك وأضناه.
ومع هذا فكيف يكون الإنصاف؟ إن النفس إما أن تغلو فى تقدير ذاتها فتنسب إليها ما ليس لها، أو تبالغ فى تقدير ما صدر عنها، أو تبرر ما ساء من تصرفها، وإما أن تغمطها حقها ويحملها حب العدالة على تهوين شأنها فتسلبها ما لها، أو تقلل من قيمة أعمالها، أو تنظر بمنظار أسود لكل ما يأتى منها، أما أن تقف من نفسها موقف القاضى العادل، والحكم النزيه، فمطلب عز حتى على الفلاسفة والحكماء.
ثم إن للنفس أعماًقا كأعماق البحار، وغموضا كغموض الليل، فالوعى واللاوعى، والعقل الباطن والظاهر، والشعور البسيط والمركب، والباعث السطحى والعميق، والغرض القريب والبعيد - كل هذا وأمثاله يجعل تحليلها صعب المنال، وفهمها أقرب إلى المحال.
وقد يخدع الإنسان فيكون من السهل اكتشاف الخديعة والوقوف على حقيقتها، وتبين أمرها، وتفهم بواعثها ومراميها؛ أما أن يخدع الإنسان نفسه فأمر غارق فى الأعماق مغلف بألف حجاب وحجاب.
من أجل هذا كان قول سقراط: "اعرف نفسك بنفسك" تكليًفا شططاً، وأمرًا يفوق الطاقة.
ولكن على المرء أن يبذل جهده فى تعرف الحق، وتحرى الصدق، ليبرئ نفسه ويريح ضميره، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
على ذلك وضعت هذا الكتاب، ولم أذكر فيه كل الحق، ولكنى لم أذكر فيه أيضًا إلا الحق، فمن الحق ما يرذل قوله وتنبو الأذن عن سماعه، وإذا كنا لا نستسيغ عرى كل الجسم فكيف نستسيغ عرى كل النفس؟ — إلا أحداث تافهة حدثت لى أو لغيرى معي، لا نفع فى ذكرها، والإطالة فى عرضها.
ثم إن حديث الإنسان عن نفسه - عادة - بغيض ثقيل، لأن حب الإنسان نفسه كثيرًا ما يدعوه أن يشوب حديثه بالمديح ولو عن طريق التواضع أو الإيماء أو التلويح، وفى هذا المديح دلالة على التسامح والتعالى من القائل، ومدعاة للاشمئزاز والنفور من القارئ والسامع. ولذلك لا يستساغ الحديث عن النفس إلا بضروب من اللباقة، وأفانين من اللياقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة