كان الآلاف يشيعون بالبكاء جثمان الفنان عبدالحليم حافظ من جامع عمر مكرم بالقاهرة، يتقدمهم ممدوح سالم رئيس الوزراء، وعزالدين مختار، الأمين الأول برئاسة الجمهورية، نائبا عن الرئيس السادات، وعبدالمنعم الصاوى، وزير الثقافة والإعلام، وكان الدكتور يوسف إدريس يبكيه فى مرثية عميقة تليق بكاتبها وبالفقيد.
نشر «إدريس»، مرثيته «حيث يتعانق المجد والموت»، فى «الأهرام، 2 أبريل، مثل هذا اليوم، 1977»، ومما جاء فيها: «جفت الأقلام وطويت الصحف، وانتهت القصة، واحدة من غريبات قصص الحياة.. طفل فلاح مصرى يتيم، كان مفروضا أن يموت بالبلهارسيا فى سن العشرين، ولكن بإرادة الفلاح المصرى، والذى وكأنما اعتزم منذ أن وجد على سطح الأرض أن يحيا إلى نهايتها.. كافح اليتم الفقير، ودأب، وجَدّ، وجاع، وتشرد، وتعلم الموسيقى، لماذا الموسيقى؟، لأنهم كانوا فى ملجأ الأيتام الذى تربى فيه يكونون فرقة موسيقى سماعية اشتهرت بها دائما تلك الملاجئ، وجاء إلى القاهرة وإلى الإسكندرية، وجاب الشوارع والأزقة والمدارس والقعدات، وبضربة حظ من هنا، وإرادة وصول من هناك، غنى لأول مرة للآلاف، ومنذ أن سمعه الناس أول مرة، ارتفع فجأة من حيث كان إلى أعلى مراتب الغناء فى مصر، جاء صوته ليعبر عن عصر ثورة قامت، وجيل شاب طامح متحمس، والتهاب أمة، فيه الحلاوة من عبدالوهاب القديم، والرنة من دفة الإحساس وطفولة المعاناة، ومعاناة الطفولة، فيه رنة الفقر الأبى الشامخ، وتواضع المصرى المنحفر من إدراك أنه الأحسن، وفيه وهذا هو الأهم وقع جديد، وقع العصر والمعاصرة، وقع الحياة حين تدور وتطرح إلى الوجود عالما لم يكن موجودا، فى حاجة إلى نغمة تنظم إيقاعه، فى حاجة إلى زفرته الخاصة، ولهفته الشخصية، فى حاجة إلى حبه بطريقته الجديدة، لا حبا للمرأة فقط، إنه الحب للحياة كلها فى شمولها ورحابتها، وامتدادها، حب جيل طامح عنيد، يغنى الحب كما يغنى للثورة، يغنى لتماثيل الرخام على الزراعية، مثلما يغنى للمصير المجهول فى قاع فنجان بن محروق، يغنى للحظ والدنيا والنجاح، يغنينا، نصرا يغنينا إذا انتصرنا، نكسة يغنينا إذا انتكسنا، قرارا اتخذنا، يغنينا مأساة عشنا، يغنينا مرحا مرحنا، فرحا فرحنا يغنينا.
ومنذ الطفولة كان الموت قد بدأ يدب فيه على هيئة تليف الكبد الناتج عن البلهارسيا، أمرضتنا لسبعة آلاف عام، وأخشى أن تظل تمرضنا للسبعة آلاف عام المقبلة، وفى صدر الشباب كان وسيما، ولكن أحدا لم يكن يرى الشىء الأخطبوطى القبيح داخله، المرض، وبدأت الأعراض.. وشيئا فشيئا بدأت أيدى الأخطبوط وأظفاره تزحف من الداخل إلى الوجه الصبوح المليح فى الخارج، وبدأت قصة الأطباء واللهفة على صحة عبدالحليم.
ولكن وراء هذا كله كانت قصتا بطولة نادرتين، بطولته كفنان، أنه كان موهبة من المستحيل أن تحدث أكثر من مرة فى جيل واحد أوعدة أجيال، وكان يعرف هو، بذكائه الغريزى الهائل هذا، ويدركه ويستأمره، ويطوره ويريد أن يصل بصوته وأذنيه إلى الموسيقى العذبة الكامنة فى إطلاقها وتجريدها، حتى لتتكرر مرة ومرة، ولها فى كل مرة مذاق مفاجئ جديد وقشعريرة استجابة طازجة.
أما بطولة عبدالحليم الإنسان فهو إنه رغم كل ما به، رغم إدراكه المبكر أنه كسيزيف حامل صخرة الفن والحياة، وفى داخله يحمل الصخرة، صخرة المرض كان قد وطن نفسه على أن يظل يصعد بالصخرتين الهائلتين سطح الجبل بأسرع وقت، وأشق جهد، وبخطوات يحمسها اليأس، ليس فيها سوى شعيرات قليلة من الأمل كى يصل إلى القمة، قمة المجد وقمة الوصول، وكان يعرف ويدرك تماما أن الموت رابض له عند هذه القمة، ومع ذلك ظل بالصخرتين يئن ويصعد إلى المجد والموت معا.
بطولته أنه، وهذا هو الغريب، لم يكن به شذوذ الفنانين ولا تعاليهم، كان وكأنما هو إنسان مثلى ومثلك، إنسان منا تماما، فيه كل طيبتنا ودهائنا وشهامتنا وخورنا وشجاعتنا، ولكنه يتفرد هنا بقدرته على أن يغنينا، بطولته أنه كان فى الداخل يبكى نفسه وحظه وقدره الإغريقى التعس، وبكل ذرة فى كيانه يحيل بكاءه إلى ابتسامات سعادة على وجوهنا ويشعرنا بالحياة أقوى ما تكون الحياة.
بطولته أنه كان، وفى أعمق أعماقه يائسا تماما، كم من مرت صرح لى بهذا، ولكنه أمل لنا لنا، أملا صادقا كان يغنى، صادقا إلى درجة يبعث فينا هو الميت يأسا، الحى أملا، بطولته أنه جعل حياتنا خلال خمسة وعشرين عاما بمشاعر جاءتنا كالغيث الجديد يروى فينا جدبا كنا نحسه، ويهمس لنا بأدعى وأرق وأعمق الانفعالات، وكأنه يفور فينا بصوته الحنون إلى أن يجعل كلا منا يغنى رقته الخاصة وآهاته الخاصة وانفعاله الخاص».
.. ويستمر المقال.