على مدى عقود، كانت صناعة الدواء مجالا لنقاشات ومعالجات ومطالب، وربما يكون ظهور فيروس كورونا، وما رافقته من تفاصيل طبية وعلمية، قد أعاد التذكير بأهمية وجود وامتلاك صناعة دواء متقدمة وقوية، وبقدرات جودة ومتابعة كبيرة، وكل من يتابع مطالب ومناقشات العقود الماضية، يعرف أهمية ما تم مع افتتاح الرئيس عبدالفتاح السيسى، لمدينة الأدوية فى الخانكة، بمحافظة القليوبية، وفق المعايير العالمية الحديثة، مع التأكيد على أن هذه المدينة سوف تكون مركزا لإنتاج أدوية الأورام، والتى يتم استيرادها، فضلا عن أنها تتطلب تقنية عالية، وقدرات تصنيعية، وبنية علمية وبحثية كبيرة.
وإذا كانت الصناعة أحد أهم أسس الاقتصاد الحديث، فإن صناعة الدواء تتطلب وجود بنية علمية وبحثية، فضلا عن ترتيبات تتعلق بمراقبة الجودة والتعامل مع الملكية الفكرية واتفاقيات التجارة، الأصناف الجديدة من الدواء ترتبط بالملكية الفكرية وبراءات الاختراع، وتخضع صناعات الخامات الدوائية لنوع من الاحتكار، من قبل عدد محدود من الشركات فى العالم، تتطلب إنفاقا ضخما وحماية مُبالغ فيها أحيانا للملكية الفكرية، فضلا عن توفير بنية علمية وبحثية تقوم على العنصر البشرى شديد التميز والكفاءة.
وهناك شقان، الأول أغلبية الأدوية القديمة أو التى مر على إنتاجها 20 عاما، تنتهى ملكيتها الفكرية، ولا تحتاج دفع مقابل براءات الاختراعات للشركات المالكة، وتمثل نحو 70%، وتبقى 30%، هى الأدوية الجديدة التى تحظى بحماية الملكية الفكرية، وهذه الأصناف يتطلب الحصول عليها سداد مقابل براءات اختراع، ما يرفع ثمنها، ومنها أدوية الأجيال الجديدة.
من هنا تأتى أهمية مشروع مدينة الدواء التى افتتحها الرئيس وبدأت منذ 7 سنوات، وهدفها إنتاج الأدوية بشكل علمى وبجدارة، طبقا لمعايير منظمة الصحة العالمية، والمعايير العالمية فى هذا الصدد، وفى السياق ذاته، تم الإعلان عن قرب افتتاح مشروع تصنيع مشتقات البلازما، بتكنولوجيا متقدمة، وبعد ضغط فترة التنفيذ.
توطين صناعة الدواء إضافة مهمة للصناعة المصرية، وفى قطاع يمثل أهمية قصوى، فالطعام والملبس يمكن استبدالهما، لكن الدواء لا يمكن الاستغناء عنه، وربما تكون أزمة كورونا أسهمت فى التعجيل بطرح هذه القضية للنقاش، والإسراع بإجراءات تسجيل الأدوية، مع وضع المحفزات للمصانع لتطوير صناعاتها والتوسع فيها.
ظلت مصر الأولى عربيا وأفريقيا فى صناعة الدواء على مدى عقود، تطورت فى الستينيات ضمن خطط بناء الصناعة وتطويرها، وحتى التسعينيات من القرن العشرين، كانت الصناعة المحلية من الأدوية تغطى ما بين 80 و85% من حاجات الاستهلاك المحلى، لكن هذه الصناعة واجهت أزمات بسبب توقف التحديث، واستمرار التسعير المنخفض للدواء، بشكل أدى لأن تتكبد الشركات خسائر وتعجز عن تطوير بنيتها، فى صناعة تعتمد على تقنيات عالية، وتستلزم التحديث المستمر.
ومنذ تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى، اهتم بالصناعة، وأيضا بصناعة الدواء، وانتهى الأمر بمدينة الدواء التى افتتحت، والحديث عن إنتاج أدوية الأورام، وهى أصناف مرتفعة، التكلفة، وقد أكد الرئيس فى كلمته، أن الهدف هو توفير الأدوية، وليس الربح، والواقع أن مصر لديها تجربة مهمة فى الحصول على حق إنتاج «سوفالدى» والأدوية الخاصة بفيروس الكبد «سى»، التى تم توفيرها بالمجان للأغلبية، تم القضاء نهائيا على واحد من أخطر الأمراض التى التهمت أكباد المصريين خلال عقود، وهى تجربة كاشفة عن إمكانية توطين صناعة الدواء، الرئيس دعا شركات قطاع الأعمال والقطاع الخاص للاستثمار فى هذه الصناعة، مع التركيز على الجودة والفاعلية للأدوية طبقا للمعايير الدولية، وهو ما يتطلب رقابة جودة دقيقة.
صناعة الدواء إحدى الصناعات الاستراتيجية، خاصة ونحن فى سبيل استكمال مشروع التأمين الصحى الشامل، ومهما كانت التكلفة فإن العائد سوف يكون كبيرا، اجتماعيا واقتصاديا، لأنه يخفض الاستيراد، فضلا عن توفير بنية علمية وخبرات، خاصة مع أهمية التعاون مع دول نامية حققت خطوات مهمة فى إنتاج الخامات الدوائية، ومنها الهند، لأن الخامات الدوائية هى قاعدة صناعة الدواء الأساسية.