فى حى كوم الدكة القديم بمدينة الإسكندرية كان مولد فنان الشعب «الشيخ» سيد درويش، وكان العام هو 1892، حيث لم يكن قد مضى نحو 10 سنوات على بداية الاحتلال الإنجليزى لمصر، والوضع الداخلى يومئ بإرهاصات ثورة شعبية من أجل الاستقلال والتخلص من البؤس والحرمان والشقاء الذى عاش فيه الناس.
من رحم هذا الشقاء وفيه ولد الشيخ سيد درويش، وكان من الطبيعى أن يلحقه والده فى حرفة يرتزق منها، ويكسب من ورائها «لقمة العيش»، وكانت مهنة النجارة ونشر الخشب ودق المسامير هى المتاحة أمامه إلا أن والده «المعلم بحر درويش» تنبأ بالفطرة البسيطة بمستقبل الفتى وكعادة الأهل فى ذلك الزمان فقد ألحقه بمعهد دينى حفظ فيه القرآن الكريم وجوّده وأراده «المعلم بحر» مقرئا للقرآن، وفقيها، ولكن الشيخ الصغير كان له رأى آخر فقد كان مولعا بالموسيقى والغناء، وهام وراء أهله وشيوخه وسلاطينه الذين تفجرت مواهبهم الموسيقية والغنائية من أسفل «عمامة» المدارس الدينية التى درسوا فيها. ومثل غيره من المشايخ فى ساحة الطرب أفاد الشيخ سيد درويش من صباه، من حفظ القرآن وتجويده وإدراك معانيه، فالكل تشارك فى هذه النشأة وفى بداية طريق المعرفة، لكنه اكتسب خبرات ومعارف جيدة من مصاحبته صبيا للفرق الجوالة للغناء فى الموالد والأسواق، ثم أفادته أيضًا الفترة التى شارك فيها فرق الإنشاد الدينى وغناء التواشيح فتأصلت جذوره الموسيقية، خاصة عندما حاكى المغنيين فى عصره فى غناء الأدوار والمواويل والقصائد الدينية، مثل داوود حسنى وكامل الخلعى وإبراهيم القبانى.
بعد وفاة والده ترك سيد بحر درويش الدراسة الدينية ولم يتبق له منها سوى صفة الشيخ، وانطلق يغنى هنا وهناك ويحفظ التواشيح وحتى أناشيد وتراتيل الكنائس لأنها كما كان يقول «تعبر عن أشواقنا إلى الذات الإلهية»، وعن إكبارنا لهذه الذات العلية، فهى ألحان تستهدف التعبير وليس مجرد التطريب.
كان الفتى الشيخ يحمل أسفل عمامته بذور ثورة موسيقية عارمة قلبت كل الموازين والمقاييس فى الموسيقى والغناء والطرب فى بدايات القرن العشرين، فقبل أن يبدأ سيد درويش رحلته العبقرية كانت الموسيقى والغناء فى مصر فنًا سجينًا فى القصور، ومخصصة لملء الفراغ وإدخال الحبور والسرور على نفوس الحريم والجوارى، وإثارة الغرائز، ولذلك كان من الطبيعى أن تستقر الموسيقى وتعيش وتحيا فى أسوار الحريم لتؤدى دورًا ترفيهيًا داخل بيئة اجتماعية نشأت فيها.. فلم يكن الغناء قبل الشيخ سيد للناس العاديين، ولم يكن لهم سوى أغانيهم البسيطة النابعة من وجدانهم وأدرك ذلك الفتى من حياته وسطهم وصلاته الوثيقة بحياتهم اليومية، ولذلك أقسم أن يطلق سراح الغناء إلى الناس، غناء سهل بسيط حتى يصبح من حق الجميع أن يغنى.
انطلق منذ صغره وصباه يختزن الأنغام الشعبية البسيطة المجهولة المصدر غالبًا والتى يتغنى بها الناس العاديون من أصحاب الحرف مثل الباعة والبنائين والحمالين والفلاحين والعمال والمراكبية لتخرج من وجدانه إعجازا فنيا غير مسبوق بما فيه من بلاغة موسيقية، وكان ذلك إعلانا عن انحياز سيد درويش بفنه للرجل البسيط والإنسان العادى لكى يعبر عن انفعالاته بالغناء فقد كان يريد للشعب أن يغنى ربما لأول مرة منذ أن عرف الشرق الغناء، وبالفعل تجاوب الناس معه دون قيود فنية وبمضامين موسيقية سلسة وراحت الأغنية مع سيد درويش تعبر عن شقاء العمال والسقايين والفلاحين وحب الوطن فقد حرر الأغنية من تعقيد أساطين التخت الشرقى قبله وفى زمنه، وحرر موضوعاتها من الآهات والزفرات والهجر إلى عوالم أخرى أكثر اتساعا وأرحب آفاقا.
ويرى بعض المؤرخين الموسيقيين أن فترة ظهور سيد درويش كانت مليئة بألوان التعبير ومظاهر الضيق بالقديم المسيطر السائد فقد كان هناك على الساحة الموسيقية من يطالبون بالتطوير والتغيير، وربما جاءت أصوات عبده الحامولى ومحمد عثمان وسلامة حجازى ومواهب أخرى، مثل الشيخ أبو العلا محمد وداوود حسنى والشيخ يوسف المنيلاوى وكامل الخلعى، أن تفرض بعض التغيير فى مسار الغناء، ولكن الانفجار العبقرى كله بدأ بالشيخ سيد درويش.
ويضم إنتاج سيد درويش أيضًا مئات من الأدوار والأناشيد والأغانى والطقاطيق والألحان الجماعية التصويرية الوفيرة، وكل هذا الإنجاز الموسيقى العبقرى كتب له الخلود والتأثير فى حركة التطور الموسيقى والغنائى، وأصبح تراثًا يستلهم من جاؤوا بعده ويستوحونه.
كان سيد درويش يشعر دائمًا أن العمر قصير ولن يمهله طويلًا، ولذلك أراد أن تحرقه عبقريته وتأكل عمره ويرحل مبكرًا.
زورونى كل سنة مرة.. تعاطيه المخدرات كان بسبب حبه وهيامه بسيدة إسكندرانية تدعى «جليلة أم الركب»، وهى قصة الحب التى أصبحت حديث الناس لأنها لم تكن فى مستوى ذلك العبقرى.
ويقال إن سيد درويش لم يكن يختار لحبه وعشقه نماذج راقية أو ذات حسب ونسب، وتتمتع بمراكز اجتماعية متميزة بل كان لا يحلو له العشق إلا فى أجواء غريبة.
وفى حب «جليلة» كتب أروع ألحانه «أنا هويت وانتهيت وليه بقى لوم العزول»، و«ضيعت مستقبل حياتى فى هواك» و«زورونى كل سنة مرة.. حرام تنسونى بالمرة».
وبسبب فشله فى حبه «لجليلة» ومحاولته لنسيانها أسرف فى تعاطى المكيفات، وحاول نسيانها عندما انتقل إلى القاهرة بالدخول فى علاقات عاطفية وغرامية، إلا أن حب جليلة ظل غرام حياته الأوحد رغم ولعه بعد ذلك بمطربة تدعى حياة صبرى مغنية بعض أوبريتاته الغنائية.
ورغم تعاطيه المخدرات كافح فى سبيل التخلص منها، ولحن من أجل ذلك عددا من الأعمال الفنية التى تحرض على كراهية المخدرات والابتعاد عنها، ولذلك ينفى دارسو موسيقى الشيخ سيد درويش، أن يكون الرجل قد أسرف فى تعاطى المخدرات، خاصة الحشيش حتى مات ويتساءلون كيف لرجل يفعل ذلك، وهو الذى غنى للشعب المصرى، وكانت أغانيه هى وقود ثورة الشعب فى 1919، فمع قصصه الغرامية كان عشق مصر وشعبها غرامه الأكبر.
كانت الفترة الأكثر تأثيرا فى حياة سيد درويش وفى ثقافته الموسيقية والتى شكلت حصيلة معرفته بأسرار اللحن والغناء، فهى تلك التى ارتحل فيها إلى بلاد الشام فلسطين ولبنان وسوريا فى رحلتين متعاقبتين مع فرقة أولاد عطا الله، واستمرت الرحلة 3 سنوات، وأتاحت له الفرص لكى يدرس ويتتلمذ فى بدايته على أيدى أساتذة الموسيقى الشرقية والنغم الشرقى الأصيل، فأتقن أصول الغناء والتلحين وتعلم دروبه ومقاماته ومخارجه، إضافة إلى الرحلة لم يتوقف عن التطلع والدراسة والمعرفة والنزول إلى المصادر الطبيعية التى كانت تغذى عبقريته.
كان يقف على ربوة عالية فى قلعة قايتباى فى الإسكندرية، ويمد ببصره إلى الأفق البعيد الغارق فى زرقة البحر المتوسط، وهو يحلم بعبوره إلى الشاطئ المقابل إلى إيطاليا، مرددا فى نفسه «الفن هناك.. متى أستطيع أن أعبر البحر لأتعلمه».
وتعلم العزف على العود فى مدرسة إيطالية ليلية بالإسكندرية، وأطلعه ذلك على أساطين الموسيقى الإيطاليين وأعمالهم الموسيقية الخالدة من التراث الأوبرالى الموسيقى، ولم يتحقق حلمه بالسفر إلى إيطاليا.
فى ثورة 1919.. كان الشيخ سيد درويش على موعد مع قدر ثورة الشعب فى عام 1919، وكانت الثورة على موعد مع صوت وألحان درويش التى عبرت عن إرادة شعب ثائر ضد الظلم والاحتلال.
انفجار عبقرية سيد درويش لم يكن مصادفة، وإنما كان «إرهاصه» شعب يهفو إلى الحرية وتتشكل رغم كل وسائل القهر ملامح شخصيته القومية، وتنبت بداخله بذور الثورة والنهوض والكفاح ضد الاستبداد بمقدراته وقيمه ومثله، الحركة القومية المصرية هبت من جديد فى العقد الأخير من القرن الـ19 عندما ولد سيد درويش.
وعاش طفولته تحت ظل «مأساة دنشواى» وصيحات الوطنية بزعامة مصطفى كامل ومحمد فريد، وكان من الطبيعى أن تنصهر عبقرية الفتى الشيخ وينضج وعيه ووجدانه فى جذوة اشتعال الوجدان الوطنى. ووضع الشيخ يده على حقيقة بسيطة أن يجعل كل الناس يغنون أحزانهم وأحلامهم وثورتهم.. بل أصبح درويش نفسه تعبيرًا عن هؤلاء الناس، وأخفى تحت عمامته ثورة الفن الغاضب والرافض لكل أشكال الظلم، وكانت الثورة هى الأتون التى انصهرت فيها عبقرية درويش لينطلق بصوته ليحيل الثورة إلى كلمات تلهج بها ألسنة وقلوب الشعب، ولذلك قال الناس وقتها إن لثورة 1919 زعيمين سعد زغلول وسيد درويش.
وحتى قبل ثورة 1919، وعقب انتقاله للقاهرة نجح فى أن يكون ويجمع حوله مجموعة من الشعراء والزجالين والكتاب والأدباء الوطنيين الثائرين.
ومع الثورة غنى درويش «قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك خد بنصرى نصرى دين واجب عليك»، ثم أغنيته التى تحولت إلى نشيد مصر الوطنى بعد ذلك «بلادى بلادى لك حبى وفؤادى»، وهو النشيد الذى أطلقه درويش فى غمار الثورة ورصاص الإنجليز يطارد الثوار.. حارب الاحتلال بصوته وموسيقاه وفى كل موقع فعندما قبضت سلطات الاحتلال على ألوف العمال المصريين لكى يعملوا بالسخرة فى مد خطوط السكك الحديدية التى تيسر انتقال جنود الاحتلال بين أقاليم مصر، ودفعت بمن بقى منهم على قيد الحياة للعمل قسرا فى البحرية الإنجليزية، أطلق سيد درويش لحنه الخالد الذى هز وجدان مصر «يا عزيز عينى وأنا بدى أروّح بلدى.. بلدى يا بلدى والسلطة أخدت ولدى»، ومع عودة بقايا العمال غنى «سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة».
وفى أحد أيام 1919 والثورة المصرية فى عنفوانها واشتعالها حكمت السلطات الإنجليزية على شاب مصرى بالإعدام لأنه قتل ضابطا إنجليزيا، واهتز ضمير مصر بالغضب والسخط لأن الحكم صدر فى نفس اليوم الذى قتل فيه الضابط الإنجليزى والتنفيذ فى اليوم التالى وكان صوت الثورة حاضرًا فى ألحان درويش وتفجر وجدانه الفنى، فأطلق أعذب وأحلى لحن لوداع الشهيد المصرى على لسان أمه الثائرة «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. أحسن غزال البر صابح ماشى».
واتساقًا مع وجدانه الثورى رفض درويش أن يغنى فى حضرة «صاحب الجلالة الملك فؤاد المعظم»، فى قصره وأمام الأمراء والوزراء لأنهم طلبوا منه حذف لفظ «سعد»، الزعيم سعد زغلول، من النشيد الذى أعده لاستقبال زعيم ثورة 1919 عند عودته من المنفى، ويضع مكانه لفظ فؤاد فيغنى «مصر وطنا.. فؤادها أملنا» بدلا من «مصر وطنا.. سعدها أملنا»، ورفض مع هذا الرفض مائة جنيه كان سيتقاضاها من القصر نظير غنائه، كما رفض أن يلقب «بمطرب الملك»، وفضل أن يكون فقيرًا ولكنه «فنان الشعب».
وعندما حظرت السلطات ذكر اسم الزعيم سعد زغلول من النشر فى الصحف وفى وسائل النشر الأخرى والأغانى بعد نفيه إلى جزيرة سيشل، تحايل سيد درويش لتحية زعيمه وتمجيده فغنى أغنيته الشهيرة «يا بلح زغلول.. يا حليوة يا بلح.. يا بلح زغلول»، ورددت مصر معه الأغنية.
فنان الشعب.. فى القاهرة انطلقت عبقرية الشيخ سيد فى مسارح جورج أبيض وسلامة حجازى، وأحدث الهزة الأولى فى ساحة الغناء والطرب بألحانه فى أوبريت «فيروز شاه» لفرقة جورج أبيض، وانضم إلى نجيب الريحانى وبديع خيرى ليعمل فى فرقتهما المسرحية كملحن ومؤلف موسيقى لكل ما يقدمه الريحانى من اسكتشات غنائية ومواقف مغناة من مسرحياته.
وإذا كانت تلك العبقرية قد تجلت فى انحيازه واختياره طواعية للوقوف فى صف فئات الشعب المختلفة من الطوائف وأصحاب المهن من أبناء مصر فقد وضع فى فم كل فرد وفى أسماعه أغانيه التى تخاطب واقع حياته حتى أطلق عليه «فنان الشعب».
وكانت الطوائف فى مصر كلها فى عام 1917 تغنى للشيخ سيد ما يشبه النشيد اليومى الوطنى عن «الحلوة التى قامت تعجن فى الفجرية» و«الأسطى عطية».. رمز كل عمال مصر الذى يصرخ فيها قائلا: «صبح الصباح فتّاح يا عليم والجيب مفيهش ولا مليم.. مين فى اليومين دول شاف تلطيم زى الصنايعية الملاطيم».
وينقل الشيخ سيد هذا الانحياز وهذا الاختيار إلى خشبة المسرح فى أول رواية لحنها لفرقة الريحانى، وهى مسرحية «ولو» عام 1918 فيقدم أروع ألحانه الحية النابضة عن «السقايين»، قائلا «يهون الله.. يعوض الله .. على السقايين.. دول شقيانين».
موت وإهمال.. لم يكن القدر رحيما بالشيخ سيد درويش ولم يمهله وهو الصوت الذى قاد بفنه وألحانه ثورة 1919، أن يكون فى شرف استقبال زعيمه سعد زغلول من المنفى فقد مات يوم العودة فى سبتمبر 1923 عن عمر لم يناهز الـ31 عاما، وفى الوقت الذى كان الشعب يغنى ألحان الشيخ سيد فى استقبال زعيم الثورة كانت روحه قد صعدت إلى بارئها ولم يشعر بموته أحد.. فهذا العبقرى حملوه إلى مثواه ولم تحتفل به الدولة ولا الصحافة، بل إن المؤتمر الأول للموسيقى العربية والشرقية الذى عقد فى القاهرة فى منتصف الثلاثينات تجاهل تكريم الرجل الذى أحدث الثورة الحقيقية فى الغناء العربى فى القرن العشرين، وحرره من القصور والإسفاف، ومن خلف أسوار الحريم وإذا لم يكن تكريمه بعد وفاته لم يأت من وطنه وقتها فقد جاء من أوروبا فقد خلده النمساويون والإيطاليون، وضموه إلى أسماء الموسيقيين الخالدين لأنه سبق مشاهير الملحنين وقتها إلى الموسيقى والألحان الغربية مثل السامبا والفالس والتانجو.
وقال عنه الموسيقار محمد عبدالوهاب «قبل سيد درويش لم نكن نسمع عن شىء اسمه ملحن إن سيد خلق للملحن المصرى الشخصية الملكية، سيد لحن لأصوات المطربين ولأصوات الشعب ونحن لا نزال نعيش فى خيره فهو الأستاذ الأكبر لهذه المدرسة التى نعيش فيها».
ترك سيد درويش تراثا موسيقيا رائعا تجسد فى «20 أوبريت» من أهم كنوز الموسيقى العربية وضعها فى 6 سنوات فقط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة