عادل السنهورى

الشيخ يوسف المنيلاوى

الأحد، 25 أبريل 2021 10:26 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل الإسلام ضد الفن؟ وما علاقة القرآن بالموسيقى ومقاماتها؟ ولماذا انطلق الغناء فى نشأته الأولى فى مصر عبر حناجر «المشايخ» و«الأزهريين» و«حفظة القرآن»؟ أسئلة عديدة شغلتنى أثناء إعداد هذا الكتاب، وبعد بحث وقراءة فى عدة مصادر عن العلاقة، أيقنت أن العلاقة وثيقة وعميقة بين الفن عموما والإسلام، وبين القرآن والموسيقى، ولذلك تولى «مشايخ الغناء والطرب» المسؤولية من البداية، وعرف المصريون فن الغناء من خلالهم، حتى الذين جاءوا من خارج منظومة المشايخ من مشاهير الغناء من أمثال الموسيقار محمد عبدالوهاب والسيدة أم كلثوم فى عشرينيات القرن العشرين، كان لزاما عليهم أن يمروا ويتعلموا هذا الفن ومقاماته من الأساتذة الأوائل من الشيخ عبدالرحيم المسلوب فى أواخر عهد حكم المماليك، والشيخ محمود صبح، ودرويش الحريرى على محمود، وصولا للشيخ إمام عيسى، مرورا بالشيخ زكريا أحمد والنقشبندى والشيخ محمد رفعت وسيد مكاوى وغيرهم.
معنى أن يحمل هؤلاء المشايخ راية الفن والغناء، وهم من رواد الأزهر الشريف، ومن حفظة القرآن، أنهم العالمون والواعون والدارسون لحقائق وبديهيات وأصول العلاقة بين الإسلام والفن والموسيقى والمقامات والقرآن، وكان واجبا علينا أن نتبع هؤلاء ولا ننتظر كل هذه السنوات للوقوع فى فخ مشايخ الغبرة وفقهاء النكد، الذين حرموا كل شىء فى الحياة بما فيها الغناء والموسيقى، فمشايخ الطرب علموا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم «زينوا القرآن بأصواتكم»، وقوله أيضا «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، من هنا جاءت مدرسة التلاوة المصرية مشرقة ومتألقة ومسيطرة فى عالمها الإسلامى، رغم بعض التراجع الطفيف فى سنوات الثمانينيات، فالرواد درسوا الموسيقى والمقامات، وعزفوا على الآلات الموسيقية، واستمعوا لموسيقات المشاهير فى العالم، واتخذوا من المقامات سبيلا للقراءة القرآنية الممتعة، فطرب الناس لأصواتهم وخشعوا معها مع كل سورة وآية ومقام موسيقى.
«شيوخ الطرب فى مصر» هو كتابى تحت الطبع الآن، أستعرض منه بعضا من سيرة أشهر من تغنوا، وأنشدوا من قراء القرآن الكريم وخريجى الأزهر الشريف منذ عهد المماليك وحتى وقت قريب.

اسمه الشيخ يوسف خفاجى المنيلاوى، مولده عليه اختلاف، فبعض المصادر تقول فى عام 1850م، والبعض الآخر يقول عام 1847م. لقب بالمنيلاوى، نسبة إلى ميلاده فى منطقة منيل الروضة بالقاهرة، وكان والده يعمل فلاحا بالزراعة، اشتهر بالتقى والورع، وعلى ذلك فقد أدخل ابنه يوسف مكاتب تحفيظ القرآن، على أمل أن يصبح من علماء الدين، لكن يوسف المنيلاوى أحب الإنشاد الدينى، خاصة سماعه للشيخ المسلوب، والشيخ خليل محرم، ثم ظهر نبوغه فى هذا الفن، بالإضافة إلى أنه كان يتمتع بصوت جميل رخيم، وبعد أن اشتهر يوسف المنيلاوى كمطرب ومنشد، خاصة فى غنائه لأدوار محمد عثمان وعبده الحامولى، وكان يوسف المنيلاوى قد عاصرهما فى أواخر أيامهما.
إذًا فقد أخذ الشيخ يوسف المنيلاوى فى بداية عهده الإنشاد عن الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب، ثم أخذ الغناء عن الملحن محمد عثمان، بدأ الشيخ يوسف المنيلاوى فى تلحين القصائد، وذاعت شهرته فى تلحينها وغنائها، وأصبح قبلة الأنظار والأسماع فى أفق الفن والموسيقى المصرية، حتى وصل أجره إلى 100 جنيه فى الليلة، ولما طبعت أغانيه على أسطوانات عام 1908 كان يكتب له لقب خاص هو «سمع الملوك».
ومن أهم القصائد الدينية التى غناها الشيخ يوسف المنيلاوى قصيدة «سلطان العاشقين» الحسن بن عمرو بن الفارض: «ته دلال فأنت أهل لذاكا».
ورغم أن المغنى أو المطرب فى وقته كان غير محترم بين علية القوم، إلا أن الشيخ المنيلاوى كان كريما عفيف النفس، عالى الهمة، شديد التمسك بكرامته، وكانت له عربة فاخرة يجرها فرسان. 
فى عام 1888سافر المنيلاوى إلى الأستانة فأحرز نجاحا كبيرا، وغنى للسلطان عبدالحميد، فأعجب به السلطان فقربه إليه، وكان يصحبه معه فى صلاة الجمعة، كما أنعم عليه ببعض النياشين، مثل «النيشان المجيدى»، وكان رغم أرباحه الطائلة عن طريق الغناء، يعمل فى تجارة القصدير، ولو أنه لم يترك ثروة ذات قيمة.
ومن أشهر أغانيه «جددى يا نفس حظك» و«قبل ما هوى الجمال» و«فتكات لحظك» و«حامل الهوى تعب»، ولعل أشهر أغانيه كانت أغنية «البلبل»، والتى كان إذا طلب منه أصحاب الفرح ما أن يغنيها، اشترط عليهم أن يدفعوا له 20 جنيها ذهبيا فوق قيمة العقد الذى كان فى الغالب 100 جنيه.
ولقد سجل المنيلاوى بعض أغانيه على أسطوانات فى الفترة ما بين 1908 و1910، مع شركتى بيكا الألمانية وجرامفون الإنجليزية. وفى السادس من يونيو عام 1911، رحل الفنان المطرب والملحن الشيخ يوسف خفاجى المنيلاوى، بعد أن ترك ذكرى طيبة فى عالم الغناء، ففى أسرته نبغت فى عالم الغناء السيدة إجلال المنيلاوى من بطلات فرقة أم كلثوم للموسيقى العربية التراثية، التابعة للمعهد العالى للموسيقى العربية بأكاديمية الفنون.
ويسرد الباحث الموسيقى وجيه ندى سيرة هذا الشيخ مع الموسيقى، فيقول إن المنيلاوى من أهم أعلام الغناء فى عصر إحياء الغناء المصرى، ذلك العصر الذى شغل معظم القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، ومن الإنشاد إلى الطرب حاول والده على توجيه نجله للالتحاق بالأزهر الشريف، فألحقه بأحد مكاتب تحفيظ القرآن الكريم التى كانت تنتشر آنذاك فى ربوع مصر من أقصاها لأدناها، حيث أتم الفتى حفظ القرآن، وتلقى أحكام التلاوة وقواعد التجويد، ولما كان صوت الفتى يوسف جميلًا، فإنه لفت الأسماع لتلاواته لآيات القرآن فى مكتب التحفيظ، وفيما رتل فيه القرآن من مناسبات وأماكن، ثم لم يلبث الشيخ يوسف كثيرًا فى موقع قارئ القرآن الكريم، حتى هام عشقًا بالإنشاد الدينى، حيث أخذ مبادئه وحذق أسراره من خلال ملازمته لكبار منشدى عصره من أمثال الشيخين خليل محرم ومحمد عبدالرحيم المسلوب، وكان صوت الشيخ يوسف من أجمل وأقوى الأصوات التى ظهرت فى عصره، لذلك اقترح عليه المطرب والملحن الكبير، عبده الحامولى، أن يترك الإنشاد الدينى، ويتحول إلى الغناء، فاندمج فى سلك المطربين، وأخذ عن عبده «الحامولى» ومحمد عثمان أدوارهما الملحنة وغناها على تخته الخاص، وانقطع عن الإنشاد إلا فى حفلات مولد النبى وتشييع الكسوة الشريفة وليالى شهر رمضان، فإذا ما تقدم الليل وتسلطن الشيخ، انتقل من الإنشاد إلى الغناء الذى كثيرًا ما كان يبدأه بالقصيدة التى يقول الشاعر فى مطلعها: فتكات لحظك أم سيوف أبيك وكؤوس خمر أم مراشف فيك.
ولا ننسى أن قراءة القرآن هى المدرسة التى خرجت لنا سلامة حجازى وسيد درويش ويوسف المنيلاوى، قبل أن تخرجهم فنون الأدوار والمواويل. فى شركات الأسطوانات رغم أن يوسف المنيلاوى أوتى صوتًا جميلًا سلكه فى عداد كبار مطربى عصره، وقال عنه كامل الخلعى «هو البلبل الصياح، والمغنى المبدع الصداح، نزهة النفس، وريحانة الأنس، الطائر الصيت فى رخامة الصوت بين جميع عشاق السماع والغناء»، ولكن صاحب صوت بهذه الصفات لم يؤت موهبة التلحين، مما وقف دوره على غناء ما يضعه غيره من ألحان، وقد تحدث الشيخ عبدالعزيز البشرى، عن ذلك أيضًا، فقال: «ولقد عاش المرحومون الشيخ يوسف المنيلاوى والشيخ محمد الشنتورى ومحمد أفندى سالم وعبدالحى أفندى حلمى ما عاشوا، لم يؤثر عن واحد منهم أنه لحن طوال حياته صوتًا «دورًا» واحدًا، إذ كلهم من الأعلام المبرزين بين أصحاب الغناء!»، لذلك اتجه الشيخ يوسف، منذ أن ذاع صيته كمطرب، إلى ألحان كل من عبده الحامولى ومحمد عثمان، يأخذ منها ما يغنيه من أدوار بصحبة تخته الخاص، وقد ضم الشيخ إلى تخته مشاهير عازفى العصر من أمثال عازف القانون الأشهر محمد العقاد - عازف الكمان العظيم إبراهيم سهلون - عازف الناى الفذ أمين البزرى وعازف الرق أبو كامل، ما جعل من تخت الشيخ يوسف أكبر تخت موسيقى فى عصره، فأقبل عليه الوجهاء والكبراء يطلبونه لإحياء أفراحهم ومناسباتهم، وأقبلت من بعدهم شركات الأسطوانات للتعاقد معه على تسجيل ما يتغنى به من قصائد وأدوار، ومن تلك الشركات نذكر كلا من شركة «صوت سيده» التى تعاقدت معه فى عام 1908م على تسجيل مجموعة من الأسطوانات، وشركة «جراموفون» التى عبأت له مجموعة أخرى فى عام 1910م.
ومن المهم أن نذكر هنا أن أسطوانات شركة صوت سيده كانت تطرح فى الأسواق باسم «سمع الملوك!»، وكان الشيخ يوسف أول من سجلت أغانيه على تلك الأسطوانات: البلبل جانى - الكمال فى الملاح صدف - الله يصون دولة حسنك - الورد فى الوجنات - إن شكوت الهوى - أنت فريد فى الحسن - بستان جمالك - جددى يا نفس حظك - حظ الحياة - عجبت لسعى الدهر - فتكات لحظك - فؤادى أمره عجب - فيا مهجتى ذوبى جوى - قد ما أحبك - كادنى الهوى - كل من يعشق جميل - كنت فين والحب فين - لسان الدمع أفصح - متع حياتك - من له عهد - ودواهى العيون - يا قلب كم مرة تقوللى - يا ما أنت واحشنى - يا نحيف القوم ويعيش ويعشق. 
المستمع لبعض هذه الأسطوانات، يستطيع أن يقف على خصائص صوت المنيلاوى وأسلوب أدائه، تلك الخصائص وذلك الأسلوب اللذان لا يجد المرء فى وصفهما خير مما ذكرته للأجيال القادمة ولا نغفل ذكره أنه وفى منازل العز عندما طبقت شهرة الشيخ يوسف الآفاق بعدما ذاعت أسطواناته بين عشاق الطرب فى مصر والبلاد العربية، أقبلت الدنيا عليه وأصبح مطلوبًا فى جميع محافل الغناء، وعلى الأخص فى قصور الأمراء ومنازل السراة من الأعيان والتجار، وأنه كثيرًا ما كان يترنم بالأبيات التالية متخذًا صيغة الموال: لا تحسبوا أن ميلى بينكم طربًا من لذة الراح أو من لذة النغم، ولا تظنوا اهتزاز الجسم من فرح فالطير يرقص مذبوحًا من الألم، وأن قدرة الشيخ يوسف المنيلاوى على أداء القصائد تفوق كل وصف، لذلك حرص دائمًا على أن يختم حفلاته الغنائية بإحدى القصائد التى كان يكثر من غنائها، ومن تلك القصائد نذكر القصيدة التى تبدأ بالأبيات التالية، والتى كان الشيخ المنيلاوى يبدع فى أدائها بلحن من مقام الراست، حيث يتفنن فى أداء التصرفات اللحنية: وساعة منك الهوهاد وإن قصرت أشهى إلى من الدنيا، وما فيها نفسى فداؤك لو نفسى ملكت إذا ما كان غيرك يجزيها ويرضيها. اتفق جميع من أرخوا للغناء المصرى على قيمة صوت الشيخ يوسف وعظمة أدائه، واتفقوا كذلك حول حميد صفاته وكريم أخلاقه، 
ورغم ذلك فقد وجد الشيخ المنيلاوى متسعًا من الوقت كى يعمل فى تجارة القصدير حتى اتسعت ثروته إلى الحد الذى مكنه من شراء قطعة من الأرض فى حى كوبرى القبة، وبجوار منزل أسرة السيوفى باشا، حيث بنى هناك منزلًا جميلًا، واقتنى عربة فاخرة تجرها الجياد. امتدت شهرة الشيخ يوسف المنيلاوى إلى خارج الحدود المصرية، وسفره إلى الأستانة فى «1888م»، لينشد، ولأول مرة، أمام السلطان العثمانى: عبدالحميد الثانى قصيدة ابن الفارض الشهيرة والتى تبدأ بالأبيات التالية: تهْ دلالا فأنت أهل لذاك وتحكم فالحسن قد أعطاك ولك الأمر فاقض - ما أنت قاضٍ فعلى الجمالُ قد ولاكَ، فاستعادها السلطان عبدالحميد منه أكثر من مرة، هذا وقد أهدى السلطان الوسام المجيدى إلى الشيخ المنيلاوى عقب انتهائه من الغناء، واقترح السلطان على الشيخ أن يقيم فى الأستانة، ولكن الشيخ اعتذر عن قبول اقتراح السلطان، وكانت حجة اعتذاره هى انتواؤه السفر لأداء فريضة الحج فى تلك السنة. و بعد مغادرة الأستانة وكم أسعد أن أنقل صورة واضحة لما كان عليه الغناء آنذاك من ازدهار ورقى، فمن هؤلاء المطربين نذكر الأسماء التالية: أحمد حسنين - محمد سالم - أحمد صابر - محمد السبع - عبدالحى حلمى وإبراهيم شفيق، كانوا جميعًا كالبلابل المغردة فى دوحة الغناء الفيحاء، ولقى الشيخ يوسف المنيلاوى وجه ربه فى يوم الاثنين الموافق 5 يونيو 1911، وقد نعته صحيفة «الأهرام» لقرائها فى الصفحة الثانية من عددها الصادر فى 6 يونيو، وكان نص نعى الصحيفة: «توفى إلى رحمة الله المأسوف عليه المنشد الشهير يوسف المنيلاوى».
الشىء الأكيد هو أن الشيخ يوسف المنيلاوى الذى نعرفه من خلال الأسطوانات التى أنتجت فى سنة 1905 هى أولى أسطواناته لصالح شركة «بيكا» الألمانية، ولكن صدرت بملصق «سمع الملوك»، وكانت تباع فى محلات «أوروزدى بك» الشهيرة فى القاهرة، ثم شركة «جراموفون» ابتداء من سنة 1907 إلى سنة 1911 سنة وفاته، كل هذه الأسطوانات تظهر رجلا يعتبر من أبرع وألمع مطربى عصر النهضة فى الشرق الأوسط.
الشيخ يوسف المنيلاوى لم يترك قالبا من الموسيقى الفصحى إلا وتغنى به، وترك جانبا كل القوالب الخفيفة كالطقطوقة إلى آخر ذلك، هو مقل كثيرا فى أداء الموشحات، ربما لاحقا عندما نستمع إلى أحد الأدوار التى سجلها سنفاجأ بأنه يغنى موشحا فى آخر الدور لتكملة وجه الأسطوانة، هذا طبعا مخالفا لأعراف الوصلة لأننا نعرف أن الوصلة تبدأ بالموشحات، ثم تلى الموشحات القطعة المرتجلة الصوتية كالموال، ثم بعد ذلك إما الدور أو القصيدة الموقعة فى الوصلة الثالثة، هذه الوصلة التى تختم بها السهرة، ولكن أن يغنى موشح مباشرة بعد الدور هذا مخالف لأعراف السهرة، وقد يكون السبب أو علة هذا التصرف العجيب ضرورات التسجيل، وضرورة تكملة الأسطوانة، ولكن مقارنة بمعاصره سيد السفطى، مع أنه طبعا سيد السفطى أصغر سنا من الشيخ يوسف المنيلاوى، مقارنة به يعتبر مقلا للغاية فى تسجيل الموشحات، فلا أجد شرحا لذلك إلا أنه تخصص فى أداء القصائد والأدوار، وبالنسبة إليه كانت الموشحات بمثابة المقدمة، أى مقدمة الوصلة، ولكنه لم يكن يعير هذه القطع الموسيقية نفس الأهمية التى كان يخصصها لها مثل الشيخ سيد السفطى أو غيره من مطربى هذا الجيل.
يوسف المنيلاوى رب الدور فى عصره، يتغنى بأدوار عبده الحامولى ومحمد عثمان، ويضيف إلى هذه الحصيلة شيئا من الأدوار القديمة للخضراوى أو المسلوب أو غيرهما، وطبعا يضيف كذلك إلى هذه الحصيلة الضخمة حصيلة جيل الشباب من ملحنى هذه الأدوار، أخص بالذكر داوود حسنى وإبراهيم القبانى. وبخصوص إبراهيم القبانى كان قد لحن دورا، ربما فى السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر، إذ أن هذا الدور الشهير نكاد نجده مسجلا بصوت كل المطربين الكبار فى بداية القرن العشرين، هو دور «البلبل جانى وقال لى»، على فكرة دور «البلبل جانى وقال لى» يعتبر لغزًا من حيث تأليف الكلمات لأننى أتحدى أى شخص أن يفهم ما المقصود من نص هذا الدور، وهذا دليل على أن فى الأدوار بالذات الكلمات ليست مهمة، تكاد تكون رص كلام فى الواقع، ولكن هذا لا ينقص من قيمة الدور على الصعيد الفنى لأنه من أجمل وأطرب أدوار إبراهيم القبانى. الشيخ يوسف المنيلاوى يقدم صيغة شخصية لهذا الدور.
بالعودة إلى مسألة الارتجال وفرض الشخصية فى القطع الموسيقية لأنها مسألة جوهرية فى عصر النهضة، يمكن المقارنة ما بين أداء للشيخ يوسف لصيغتين أو أكثر للدور الواحد، نظرًا لكونه قد سجل هذه الأدوار لصالح شركة «سمع الملوك» أى «بيكا»، ثم عاد تسجيل بعض هذه الأدوار لصالح شركة «جراموفون»، وفى بعض الأحيان هناك صيغتان لشركة «جراموفون» إن كان خلل قد وقع أثناء التسجيل فيعيد التسجيل، وهناك تسجيلات «بروفة»، مثلا «الفؤاد حبك» تمكن المستمع حاليًا من أن يقارن بين صيغتين، المقارنة تثبت أن صيغ الشيخ يوسف المنيلاوى هى فعلا صيغ شخصية، بحيث إنه يقدم صيغته الخاصة به التى أضاف إليها ما يريده، ولكن مجال الارتجال يقع فقط فى أماكن وانتقالات معينة فى الدور، بحيث إنه قد يختار أن يطور أثناء الأداء مقطعا معينا على حساب مقطع آخر، ولكن الفكرة العامة للدور تبقى ثابتة عنده، هذا لا يعنى أنه يغنى الدور كما ألفه ولحنه الملحن، هذا يعنى أن صيغة معينة كانت تتبلور حفلة بعد حفلة فى ذهن الشيخ يوسف المنيلاوى، وأنه كان يقدم كل مرة نفس الفكرة العامة، ومعنى ذلك أن الجمهور لا بد كان يتوقع منه أن يظهر براعته فى مقاطع معينة من هذا الدور، وهذا أيضًا لا يمنع أن يطلق العنان لمخيلته لإبداعه الفورى فى مقاطع معينة. 

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة