عادل السنهورى

الشيخ محمد رفعت قيثارة السماء

السبت، 01 مايو 2021 09:38 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من الظلم والإجحاف أن يعرف الشيخ محمد رفعت بأنه فقط قارئ للقرآن.. فهو ابن مرحلة تاريخية غاية فى الأهمية عاشتها مصر منذ مولده فى 9 مايو 1882حتى وفاته فى 9 مايو 1950، يمكن أن نطلق عليها مرحلة تغييرات وتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية شديدة الأهمية.. فهى مرحلة مخاض عسيرة المولد. فبعد مولد الشيخ رفعت بأربعة شهور تقريبًا اشتعلت أحداث الثورة العرابية والمطالبة باستقلال الجيش المصرى، وبالحياة النيابية السليمة، وفى الشهر ذاته سبتمبر من عام 1882 فشلت الثورة لأسباب عديدة واحتل الإنجليز مصر بعد هزيمة عرابى واتهامه بالخيانة فى موقعة التل الكبير، وبعد 12 يوما من وصول الإنجليز للقاهرة يعاد تنصيب الخديوى توفيق ابن إسماعيل حاكما لمصر مكافأة له.. وبدأت الحركات الفكرية والسياسية المطالبة بالاستقلال فى الظهور.. وعندما بلغ الشيخ رفعت عامه السادس والسابع كانت أفكار الإمام الشيخ محمد عبده تشغل المجتمع المصرى الذى عانى من ظلام العثمانيين فهو واحد من أبرز المجددين فى الفقه الإسلامى فى العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة، وساهم بعلمه ووعيه واجتهاده فى تحرير العقل العربى من الجمود الذى أصابه لعدة قرون، كما شارك فى إيقاظ وعى الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهى لمواكبة التطورات السريعة فى العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره فى مختلف النواحى السياسية والاقتصادية والثقافية.. وفى بدايات القرن العشرين ومع بلوغ الشيخ محمد رفعت عامه الرابع عشر والخامس عشر، وبدء نضج وعيه لما يحدث حوله فى المجتمع ظهر الزعيم مصطفى كامل ودعوته للاستقلال التعليمى والثقافى وإنشاء المدارس الأهلية، وإنشاء جامعة أهلية وطنية كرد فعل لسياسة الاحتلال نحو طمس الهوية المصرية، والقضاء على العقلية والفكرية ثم ظهور الزعيم محمد فريد.
 
مع نضجه ووعيه الكامل يعيش الشيخ محمد رفعت أحداث ووقائع ثورة 19، وما تمخضت عنه من أفكار وطنية ووعى جمعى بالقضية الوطنية المصرية ووأد التفرقة بين عنصرى الشعب من مسيحيين ومسلمين، وتنهض الدعوة إلى الاستقلال الاقتصادى من طلعت حرب باشا وينهض الفن مع سيد درويش.. وبداية المعركة الحقيقية نحو الاستقلال التام من الاحتلال الإنجليزى.
 
هذه هى المرحلة التاريخية التى عاشها الشيخ محمد رفعت.. فى مجتمع يسعى إلى التغيير فى التعليم والفن والثقافة والاقتصاد.. وتأثر هو بكل ذلك وتكونت شخصيته وهو المولود فى درب الأغوات بحى المغربلين أحد اشهر الأحياء الشعبية بالقاهرة، ولذلك فقد اعتبره جميع المصريين من كل الطوائف والديانات المختلفة هو صوت التغيير والتعبير عن أحلامهم حتى لو كان بقراءة القرآن.. فقد التف حول صوته المسيحيون واليهود المصريون قبل المسلمين، واعتبروا صوته هو صوت مصر التى تتوق للحرية إلى العالم .. ولمَ لا فهو أول صوت بشرى يصل للمصريين عبر الراديو.
 
فى عام 1934 شهدت مصر ميلاد الإذاعة اللاسلكية وافتتحت إرسالها بتلاوة الشيخ محمد رفعت «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا»، كانت الإذاعة المصرية فى ذلك الوقت بمثابة السحر الآتى عبر الأثير والقادر على إيصال صوتك لبشر بعيدين عنك بآلاف الكيلومترات، ومن حينها وانطلق صوت الشيخ رفعت كملمح خاص لتلك الإذاعة ومنذ السنة الأولى، تم التعاقد معه لتلاوة القرآن طوال شهر رمضان مقابل مائة جنيه.
 
ولقراءته القرن فى الإذاعة قصة طريفة، ففى إحدى الليالى سمعه البرنس محمد على توفيق، ابن عم الملك فاروق، فرشحه لافتتاح الإذاعة المصرية بتلاوته، ولكن الشيخ الورع التقى خاف من هذا الاختراع الجديد الذى لم يكن قد وصل حتى إلى دول أوروبا، وخاف أن يتلو القرآن ويذاع من الراديو فى مكان لا يليق بجلال كلام الله، وحينها قال له شيخ الأزهر الظواهرى: «ربما يهدى الله بصوتك شخصا إلى طريق الله»، وهنا وافق الشيخ رفعت على افتتاح الإذاعة بسورة الفتح، وبعقد قيمته 3 جنيهات، لتحدث الطفرة الكبرى فى شهرة الشيخ رفعت التى وصلت للعالم أجمع.
 
فى تلك الأثناء أصبح صوت الشيخ رفعت علامةً مميزةً أيضًا لشهر رمضان، حتى طُلب منه تسجيل الأذان بصوته وظل هذا الأذان هو المميز لشهر لرمضان على الإذاعة المصرية ومن بعدها التليفزيون المصرى، وهو نفس الأذان الذى تستخدمه معظم القنوات الفضائية فى رمضان حتى اليوم. وقد استخدم الشيخ فيه مقام «السيكا» الموسيقى مما جعله مختلفًا ومميزًا عن أى أذان آخر، حيث جرت العادة أن يرفع الأذان على مقام «حجاز».
 
ومن شدة تأثير صوت الشيخ محمد رفعت استخدمت الإذاعات الأجنبية الموجهة تسجيلاته، وبثتها كى تجتذب المستمعين العرب والمسلمين، حتى أصبح صوته مألوفًا حتى لدى المستمعين الأجانب.
 
مقام السيكا؟! نعم.
 
وهل تعلم الشيخ محمد رفعت فنون وعلوم الموسيقى؟!
 
بالطبع فالشيخ رفعت كان دارسًا للموسيقى وعازفًا للعود فى هذا الزمان، لم يكن التدين يرتبط فى أذهان المصريين بالتشدد أو باعتزال المجتمع أو بـ«بمشايخ الغبرة والنكد»، وفتاوى الإرهاب والتكفير وكراهية كل شىء وتحريمه، فقد كان الشيخ رفعت معبرًا عن زمانه الجميل فى هذا، فحينما أراد الشيخ أن يستزيد من العلم قرر أن يتعلم الموسيقى وأن يتدرب على عزف العود حتى أتقنه ثم حفظ مئات الأدوار والتواشيح والقصائد، كما استمع إلى موسيقى «بيتهوفين» و«شوبان» و«موزارت»، و«فاجنر» وغيرهم وقد أثر ذلك كثيرا فى طريقته فى التلاوة فأصبح قادرًا على اختيار المقام الموسيقى المناسب لكل سورة، ولكل آية حتى أنه أتقن الانتقال بين المقامات بصورة لم يستطعها موسيقيون كبار فى ذلك الوقت. وكان ينشد تواشيح ومدائح نبوية وقصائد، إضافة إلى تلاوته للقرآن فقد تعلمت منه أم كلثوم وليلى مراد المقامات، واهتم بشراء الكتب، ودراسة الموسيقى الرقيقة والمقامات الموسيقية، وحفظ العديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية فى مكتبته.
 
ويذكر الدكتور خيرى عامر، فى كتاب «مشايخ فى محراب الفن»: «لم تكن لتكتمل للقارئ الجديد أدواته بدون دراسة الموسيقى والإلمام بقواعدها وطبع صوته بسحرها، فتعلم قواعد الموسيقى من خلال العزف على العود وحفظ الكثير من إبداعات كبار ملحنى عصره من أمثال الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب وعبده الحامولى ومحمد عثمان، حتى أن هناك من الباحثين من يذكر أنهم استمعوا إلى الشيخ وهو يردد بعض القصائد مثل «أراك عصى الدمع» و«وحقك أنت المنى والطلب» و«سلوا قلبى».
 
ويروى أنه ارتبط بصداقة قوية مع العديد من مبدعى الفن فى هذا الزمان، ومنهم الموسيقار «محمد عبدالوهاب» والفنان الكبير «نجيب الريحانى». 
 
يقول الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب فى حديث له عن ذكرياته مع الشيخ محمد رفعت، «كنت صديقا له وتحت قدميه، حيث تحولت علاقتى به من صديق إلى خادم».
 
ويمضى عبدالوهاب قائلا «كنت أشعر أنه يخاطب الله فعلا، لم تكن تلاوته مجرد قراءة، وكنت أشعر أنه بين يدى الله قبل أن يقرأ الآية، فالإيمان مختلط بصوته وصوته مختلط بالإيمان».
 
وعن العلاقة بين الاثنين، يروى إبراهيم رفعت حفيد الشيخ، أن محمد عبدالوهاب تحدث للشاعر الراحل كمال الشناوى عن صوت الشيخ محمد رفعت فطلب منه الثانى صحبته للاستماع إليه فى مسجد «فاضل باشا» بحى السيدة زينب، حيث اعتاد التلاوة هناك كل جمعة.
 
وقال الشناوى لعبدالوهاب «سآتيك قبل الصلاة بنصف ساعة لنستمع إليه، فقال له عبدالوهاب إذا أردت فليكن فى السابعة صباحًا لأن الناس تتدفق على المسجد مبكرًا لتجد لها مكانًا حتى تستمع إلى الشيخ».
 
الشيخ رفعت لم يكتفِ بالتلاوة فقط حتى يعشق الناس صوته ولكن لأنه كان موسيقيًا بالفطرة يعرف كيف يلمس روح المستمعين بصوته، وكيف ينقل معانى الآيات إلى قلوبهم، لم يسِر فى طريق من سبقوه وإنما شق لنفسه طريقًا خاصًا به مسجلًا باسمه حتى اليوم، حاول تقليده كثيرون، اقترب بعضهم من صوته، ولكن لم يقترب أحد من روحه وتصديقه لما يرتل.
 
وعن ذلك يروى الشيخ «أبو العنين شعيشع»، أنه لم يشهد فى حياته قارئا يتمثل الآيات ويتأثر بما يرتل حتى أنه يبكى دون أن يؤثر ذلك على ترتيله، سوى الشيخ محمد رفعت.
 
كان الشيخ محمد رفعت ذا صوت جميل ببصمة لا تتكرر، وأسلوب فريد ومميز فى تلاوة القرآن، كان يتلو القرآن بتدبر وخشوع يجعل سامعه يعيش معانى القرآن الكريم ومواقفه بكل جوارحه لا بأذنه فقط، فكان يوصل رسالة القرآن ويؤثر بمستمعى تلاوته. كان يبدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والبسملة والترتيل بهدوء وتحقيق، وبعدها يعلو صوته، فهو خفيض فى بدايته ويصبح بعد وقت ليس بالطويل غالبا «عاليا» لكن رشيدا يمسُّ القلبَ ويتملكه ويسرد الآيات بسلاسة وحرص منه واستشعار لآى الذكر الحكيم.
 
كان اهتمامه بمخارج الحروف كبيرا، فكان يعطى كل حرف حقه ليس كى لا يختلف المعنى فقط بل لكى يصل المعنى الحقيقى إلى صدور الناس، وكان صوته حقا جميلا رخيما رنانا، وكان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلف. امتلك الشيخ محمد رفعت طاقات صوتية هائلة، جعلته يستطيع الانتقال بسلاسة شديدة بين المقامات فى أثناء تلاوته للقرآن الكريم، ليس هذا فحسب، بل إنه امتلك القدرة على تراسل الحواس لدى المستمعين، فيعلم متى يبكيهم، ومتى يبهجهم من خلال آيات الترغيب والترهيب فى كتاب الله عز وجل، فقد أوتى مزمارًا من مزامير داود، وإذا ما وضعنا جماليات الصوت جانبًا لننتقل إلى قوته، فإن صوته كان قويًا لدرجة أنه يستطيع من خلاله الوصول لأكثر من 3 آلاف شخص فى الأماكن المفتوحة.
 
كان محافظًا على صوته يتجنب نزلات البرد والأطعمة الحريفة ولا يدخن ولا يتناول طعام العشاء.
 
يعد الشيخ أبو العينين شعيشع من المتأثرين بتلاوة الشيخ محمد رفعت، وصوته شديد الشبه به حتى أن الإذاعة المصرية استعانت به لتعويض الانقطاعات فى التسجيلات.
 
كما يعتبر الشيخ محمد رشاد الشريف مقرئ المسجد الأقصى من المتأثرين بقراءة الشيخ محمد رفعت. وفى العام 1943، استمع إلى محمد رشاد الشريف الشيخ محمد رفعت، فقال عنه «إننى أستمع إلى محمد رفعت من فلسطين»،  ورد له رسالة فى العام 1944 معتبرا إياه بمثابة «محمد رفعت الثانى».
ولأنه ابن مرحلة تاريخية شيدة الأهمية فى تاريخ مصر اجتماعيا وسياسيا وتنويريا، فقد كان منزله وهو قارئ القرآن الأول فى مصر والعالم الإسلامى عبارة عن مجمع أديان وملتقى فنانين وقساوسة ورهبان.
 
ويذكر أنه فى عام 1938 أو 1939 توقف الشيخ رفعت عن القراءة للإذاعة، لأن سعيد لطفى باشا رئيس الإذاعة رفع أجر الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى من 12 جنيها إلى 14 جنيها فى التلاوة الواحدة، ولم يرفع أجر الشيخ رفعت إلى الرقم نفسه، رغم أن الشيخ رفعت افتتح الإذاعة بصوته، ولأنه الصوت الذى إذا غرد يصيب الجسد بالقشعريرة، والروح بالصفاء والنفس بالسمو فقد غضب الكثير من الأقباط وطالبوا بإعادة الشيخ رفعت إلى قراءة القرآن فى الإذاعة حين تم منعه منها لأنهم يحبون الاستماع إلى سورة «مريم» بصوته.
 
يقول الكاتب الصحفى المصرى الراحل لويس جريس، إن الشيخ عايش أحداثا وطنية مهمة، منها فترة الزعيم مصطفى كامل وواقعة دنشواى وثورة 1919.
وبعيدًا عن الحساسيات الدينية لا يتردد لويس جريس فى القول «عندما جئت إلى القاهرة وجدت عددا كبيرا من الأقباط يسيرون وراء الشيخ محمد رفعت فى كل سرادق يرتل فيه».
 
ويقول جريس، إن الشيخ محمد رفعت بتلاوته «أدى دورا وطنيا مهما جدا أكثر مما فعلته خطب الساسة أو أغانى المطربين، وقرّب القبطى من المسلم أكثر مما فعلته خطب الساسة، فصوته حنون جدا يجعلك إنسانا رقيقا تحب من أمامك».
 
وتحول منزله إلى ملتقى وصالون ثقافى اجتمعت فيه كل الأطياف والأديان بعدما ذاعت شهرته، فالتف حوله الفنانون والأدباء والمفكرون وعلماء الأزهر والقساوسة والرهبان وحتى المواطنين اليهود، فالمنزل كان مكونا من 3 طوابق، الطابق الأول منه عبارة عن 3 منادر، يعقد بها صالون ثقافى يحضره فكرى أباظة الشاعر أحمد رامى، ومحمد التابعى، والشيخ زكريا أحمد، ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم ووالدها الشيخ إبراهيم، وليلى مراد ووالدها اليهودى زكى مراد قبل دخولها الإسلام ونجيب الريحانى.
 
فقد كان قيثارة السماء صديقا للعديد من القساوسة والرهبان الذين عشقوا صوته، وربطته علاقة قوية بنجيب الريحانى وبديع خيرى، وأن الريحانى كان يبكى عندما يستمع إلى القرآن منه، وقال إنه عندما يكون عنده مسرح، والشيخ رفعت يقرأ فى الإذاعة لا يفتح الستارة حتى ينتهى الشيخ رفعت من القراءة.
 
وقد كتب الريحانى مقالا بعنوان: «نزهة الحنطور مع الشيخ رفعت» يشير فيه الريحانى إلى فضل القرآن عليه وما تعلمه منه، بعد قراءته مترجما بالفرنسية وسماعه بصوت الشيخ رفعت قائلا: ما كاد هذا الصوت ينساب إلى صدرى حتى هز كيانى وجعلنى أقدس هذه الحنجرة الغالية الخالدة، وهى ترتل أجمل المعانى وأرقها وأحلاها، صممت على لقاء الشيخ رفعت، فالتقيته أكثر من مرة وتصادقنا»، ووصف الريحانى الشيخ رفعت بالعالم الكبير، وأن صوته هو الخلود بعينه، مؤكدا أن نبراته احتار فى فهمها العلماء، وأنه عندما سأل عبدالوهاب عن سر حلاوة هذا الصوت، قال «إنها منحة إلهية وعبقرية لن تتكرر». وظل الريحانى مرافقا للشيخ رفعت فى أيام مرضه الأخيرة، وقد توفى قبله بعام تقريبا.
 






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة