كان قلبه مليئًا بالزهد وعشق القرآن وعزته، ولم يسع وراء مال أو شهرة.. فى داره الهادئة المتواضعة بحى السيدة زينب كان يعيش الشيخ «محمد رفعت»، ولم يكن يغادرها فى أواخر أيامه إلا لإذاعة القرآن الكريم من محطة الإذاعة أو للترتيل فى سهرة كان يدعو إلى إحيائها أو إلى الذهاب إلى مسجد الأمير فاضل بشارع درب الجماميز يوم الجمعة، فكان يؤثر قضاء الوقت فى داره بين قرينته وأولاده. أما كيف كان يقضى يومه؟ فكان يبدأ بصلاة الصبح يوميًا ثم شرب القهوة والجلوس بين يدى حلاقه وأكثر أوقات الفراغ إلى جانب الراديو فى حجرة الاستقبال، بعدها الجلوس إلى جوار ابنه محمد أفندى للرد على بريده الخاص.. ومن الأمور المشهورة عن الشيخ محمد رفعت أنه كان لا يدخن ولا يأكل إلا مرة واحدة فى اليوم. وللحفاظ على صوته كان يتجنب نزلات البرد وعدم البقاء فى مكان به رائحة قوية عطرية كانت أم كريهة، مع عدم تناول الأطعمة التى تحتوى على مواد حريفة كالفلفل والشطة والأطعمة التى يعسر على معدته هضمها.
قربه وانحيازه للفقراء ظهر فى مواقف عديدة، منها أنه ذات ليلة طلب من ابنه محمد أن يصحبه إلى شارع مارسينا بالسيدة زينب، فتعجب الابن ولكن الأب أصر وظل يصف الطريق لابنه حتى وصلا إلى مأتم، وطلب من ابنه أن ينادى صاحب المأتم، وعندما جاء قال له الشيخ رفعت: «لماذا لم تنفذ وصية والدتك وتحضر الشيخ رفعت للقراءة فى مأتمها»، فقال له صاحب المأتم: «أنا مش قد الشيخ رفعت وأحضرت شيخًا بسيطًا»، فقال له: «أنا الشيخ رفعت، واذهب واستئذن الشيخ الذى أحضرته، لأننى سأقرأ مكانه تنفيذًا لوصية والدتك».
ويروى أنه زار صديقا له قبيل موته فقال له صديقه من يرعى فتاتى بعد موتى؟ فتأثر الشيخ بذلك، وفى اليوم التالى والشيخ يقرأ القرآن من سورة الضحى وعند وصوله إلى «فأما اليتيم فلا تقهر»، تذكر الفتاة وانهال فى البكاء بحرارة، ثم خصص مبلغًا من المال للفتاة حتى تزوجت. كان زاهدًا صوفى النزعة نقشبندى الطريقة يميل للناس الفقراء البسطاء أكثر من مخالطة الأغنياء فقد أحيا يومًا مناسبة لجارته الفقيرة، مفضلًا إياها على الذهاب لإحياء الذكرى السنوية لوفاة الملك فؤاد والد الملك فاروق.
الشيخ رفعت كان يفضل القراءة فى الليالى التى لا يحصل فيها على أجر، ويشير إلى أنه يشعر بأنه تنزل عليه فتوحات من السماء أثناء القراءة، وكان يقول أشعر بأن من يدفع لى أجرا كأنه اشترانى.
ويروى أن أحد الأثرياء المسلمين الهنود فى حيدر أباد كان من أشد المعجبين بصوت الشيخ محمد رفعت، وعرض عليه أن يحيى ليالى رمضان فى الهند بأى مبلغ يحدده، ولكنه رفض حتى وصل المبلغ إلى 100 جنيه فى اليوم وهو مبلغ كبير وقتها، ووسط الثرى الهندى الموسيقار محمد عبدالوهاب لإقناع الشيخ رفعت، حتى أن عبدالوهاب قال له: «سأسافر معك»، ولكن الشيخ أصر على موقفه، وفضل إحياء ليالى رمضان فى مصر فى الإذاعة المصرية مقابل 100 جنيه فى الشهر كاملًا.
وصلت شهرته للعالمية، وطلبت إذاعات برلين وفرنسا وبريطانيا أن يفتتحها الشيخ رفعت بصوته ولكنه رفض، وعندما أصرت إذاعة لندن سجل لها أسطوانة بسورة مريم، وأرسلها عن طريق البحر مؤكدة ويتردد أن الكثيرين أسلموا على يديه، ومنهم الضابط الكندى الذى جاء لمصر بعدما أعجبه صوت الشيخ رفعت وطلب مقابلته وأسلم على يديه، والتقطت لهما الإذاعة صورة تذكارية.
قالوا عن الشيخ رفعت وصوته
وصفه الشيخ أبو العينين شعيشع بالصوت الباكى، كان يقرأ القرآن وهو يبكى، ودموعه على خديه. وحين سُئل الشيخ محمد متولى الشعراوى عن الشيخ محمد رفعت، قال: «إن أردنا أحكام التلاوة فالحصرى، وإن أردنا حلاوة الصوت فعبدالباسط عبدالصمد، وإن أردنا النفس الطويل مع العذوبة فمصطفى إسماعيل، وإن أردنا هؤلاء جميعًا فهو محمد رفعت».
وعن صوت الشيخ محمد رفعت، قال الشيخ محمد الصيفى: «رفعت لم يكن كبقية الأصوات تجرى عليه أحكام الناس.. لقد كان هبة من السماء».
قال عنه الأديب محمد السيد المويلحى، فى مجلة الرسالة: «سيد قراء هذا الزمن، موسيقى بفطرته وطبيعته، إنه يزجى إلى نفوسنا أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا».
ويقول عنه أنيس منصور: «ولا يزال المرحوم الشيخ رفعت أجمل الأصوات وأروعها، وسر جمال وجلال صوت الشيخ رفعت أنه فريد فى معدنه، وأن هذا الصوت قادر على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، ثم إنه ليس كمثل أى صوت آخر».
ويصف الموسيقار محمد عبدالوهاب صوت الشيخ محمد رفعت بأنه ملائكى يأتى من السماء لأول مرة، وسئل الكاتب محمود السعدنى عن سر تفرد الشيخ محمد رفعت، فقال: كان ممتلئًا تصديقًا وإيمانًا بما يقرأ.
أما على خليل «شيخ الإذاعيين» فيقول عنه: «إنه كان هادئ النفس، تحس وأنت جالس معه أن الرجل مستمتعا بحياته وكأنه فى جنة الخلد، كان كيانًا ملائكيًا، ترى فى وجهه الصفاء والنقاء والطمأنينة والإيمان الخالص للخالق، وكأنه ليس من أهل الأرض». ونعته الإذاعة المصرية عند وفاته إلى المستمعين بقولها: «أيها المسلمون، فقدنا اليوم عَلَمًا من أعلام الإسلام». أما الإذاعة السورية فجاء النعى على لسان المفتى حيث قال: «لقد مات المقرئ الذى وهب صوته للإسلام»!!.
وقال شيخ الأزهر الأسبق مصطفى المراغى: هو منحة من الأقدار حين تهادن وتجود، بل وتكريم منها للإنسانية.
وقال الإذاعى محمد فتحى الذى كان يلقب بكروان الإذاعة: استمع إلى الشيخ محمد رفعت وهو يرتل سورة يوسف لأن فن الترتيل عندنا بلغ القمة بل أعلى الذرا من الأصالة والدقة، خاصة من الشيخ محمد رفعت تبلغ بك النشوة الفنية غايتها وأنت محلق مع المرتل فى السماوات العلا مع أحداث الرواية الإلهية.. يا له وهو يصور الإنسان تحت ضغط الغريزة الجامحة التى تكاد تجرف حتى النبى «ولقد هَمّت به وهَمّ بها»، ثم استمع إليه وهو يرتل على لسان امرأة العزيز «هَيت لك» مرة بفتح الهاء و«هِيت لك» بكسر الهاء فى المرة الثانية أداء علوى يسمو بالإنسان فوق نفسه.
وقال الشيخ أحمد الشرباصى: الشيخ محمد رفعت يعطينا معان كانت غائبة عنا، وذكر علماء الموسيقى: أن صوت الشيخ محمد رفعت اجتمعت فيه كل مميزات الحنجرة العربية من الأنغام والأوتار الصوتية الخلاقة.
وقال عنه الشاعر العربى السورى نزار قبانى يوما: «يفتح صوت الشيخ رفعت أمامى أبواب السماء».
سنوات المرض والابتلاء والرحيل
أصعب الفترات التى مرت على الشيخ محمد رفعت هى فترة مرضه ورغم شهرته الواسعة فإنه لم يقرأ فى الإذاعة إلا سنوات قليلة خلال الفترة من عام 1934 وحتى عام 1939، حيث أصيب بورم فى الحنجرة، وخاف أن تفاجئه النوبات وهو يرتل على الهواء، واكتفى بالقراءة فى مسجد فاضل، حتى آخر يوم احتجب فيه صوته تماما فى عام 1940، ليبقى فى بيته 8 سنوات وتتدهور حالته.
يروى الكاتب والناقد والمؤرخ الفنى كمال النجمى واحدا من شهود «الحدث الجلل»، فى كتابه «أصوات وألحان عربية»، قائلًا: «كان يتلو سورة الكهف فى مسجد «فاضل باشا» يوم الجمعة كعادته منذ 30 عامًا، فلما بلغ الآية «واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا»، غص صوته واحتبس فى كلمتين أو ثلاث، فسكت قليلًا يقاوم ما ورد عليه من الغصة والاحتباس، ثم عاد يتلو تلاوة متقطعة حتى ملأت الغصة حلقه وحبست صوته تمامًا، هنا حنى الشيخ العظيم رأسه جريح القلب لا يدرى ماذا يصنع، ثم أخرج من جيبه زجاجة صغيرة فيها سائل أحمر يبدو أنه دواء أحضره له بعض الصيادلة، فاحتسى قليلًا ثم انتظر برهة وعاد يحاول التلاوة، فأطاعه صوته فى آيتين أو ثلاث، ثم قهرته الغصة وكسرت شوكة الدواء الأحمر، فتوقف الشيخ العظيم حائرًا بعض الوقت ثم غادر مجلسه تاركًا إياه لشيخ آخر يتلو ما تيسر من السور.
كانت لحظة قاسية عنيفة اهتزت لها أعصاب الحاضرين فى المسجد فضجوا بالبكاء ولطم بعضهم الخدود حزنًا وأسفًا، وارتفع صراخ المقرئين الشبان الذين كانوا يلتفون حول الشيخ العظيم كل جمعة يحاولون أن يتلقنوا بعض أسرار صناعته وفنه وطريقته، وبعد الصلاة خرج الناس وعيونهم فيها الدموع، وقلوبهم تحف بالشيخ الحزين، لا يدرون أيواسونه أم يواسون أنفسهم؟».احتبس صوت«رفعت»، «بمرض الفواق بعد سنوات عمت شهرته البلاد وطبقت الآفاق».
«كان مرضه ابتلاء أكبر مما ابتلى به الشيخ بفقده بصره».. و«اشتد عليه وتقبله راضيًا، وأبت عليه عزة نفسه أن يمد يده لأحد طالبًا العون فى مصاريف العلاج الباهظة»، وفقًا للكاتب الصحفى أيمن الحكيم، مضيفا: «باع بيته وقطعة أرض يملكها ولم يقبل التبرعات التى جمعها المحبون له ووصلت إلى 20 ألف جنيه، وبضغط وإلحاح تلميذه وصديقه الشيخ أبو العينين شعيشع وافق على قبول المعاش الشهرى الذى خصصه له وزير الأوقاف الدسوقى باشا أباظة، وقبل وفاته بأقل من عام، وفى يوليو 1949 نشرت مجلة «المصور» تحقيقين عن مرض الشيخ ومعاناته، فتبنى الكاتب الصحفى أحمد الصاوى محمد، حملة لعلاج الشيخ من خلال اكتتاب شعبى، ونجح فى جمع 50 ألف جنيه من طواف الشعب مسلمين ومسيحيين، ولما علم الشيخ كتب إليه: «أنا مستور والحمد لله ولست فى حاجة إلى هذه التبرعات، والأطباء يعالجوننى ولكنهم لم يستطيعوا وقف هذا المرض ومنعه، كما أن هذه المبالغ أصحابها أولى بها منى، فهم الفقراء والمحبون لصوتى حقًا، لكنى الحمد لله لست فى حاجة إلى هذا المال، لأن الشيخ رفعت غنى بكتاب الله ولا تجوز عليه الصدقة، وأعتذر عن عدم قبول هذه التبرعات، ومرضى بيد الله سبحانه وتعالى وهو القادر على شفائى، وإنى أشكر الأستاذ الصاوى وأشكر كل من أسهم فى هذه التبرعات على روحهم الطيبة وحبهم لى».
بعد 10 أشهر رحل فى 9 مايو 1950، اليوم نفسه الذى ولد فيه سنة 1882، الفارق فقط أنه ولد لحظة أذان الظهر ومات لحظة أذان الفجر».
لكن المأساة الحقيقية كما يذكر الكاتب الصحفى سعيد الشحات فى بابه الشيق «ذات يوم» بـ«اليوم السابع»: أن جنازة الشيخ محمد رفعت مقرئ القرآن الكريم خلت من مظاهر التكريم الرسمية، وكان ذلك جحودا من أجهزة الدولة ونكرانها لفضل عبقريته، حسب تأكيد الدكتور نبيل حنفى فى كتابه «نجوم العصر الذهبى لدولة التلاوة».
فى مقابل هذا الغياب الرسمى كان التقدير والإعجاب والمحبة شعبيا، فحسب محمود السعدنى فى كتابه «ألحان السماء»: «وفد على مأتم الشيخ آلاف من مختلف أنحاء البلاد لم تكن لهم صلات به إلا صلة التقدير والإعجاب».. يذكر السعدنى واقعة مؤكدًا أنها «حقيقة وليست خرافة»، وهى «أقسم أحد كبار الجزارين أن جسد العبقرى لن يدفن إلا فى المقبرة التى أعدها له، وكان قد أعد فى صمت وبلا ضجيج مقبرة عظيمة تليق بعظمة الراحل الكريم، وأصر الجزار الطيب على أن يحمل نعش الشيخ بنفسه إلى مثواه الأخير».. يؤكد نبيل حنفى أن الصحف الصادرة يوم 10 مايو، مثل هذا اليوم، 1950 لم يتحدث فيها أى مسؤول بكلمة واحدة عن الشيخ، وفى المقابل «نشرت إعلانات النعى التى تكفل بنشرها البعض من محبيه، بالإضافة إلى رابطة قراء القرآن الكريم بمصر والحزب الاشتراكى «فرع الموسكى»،والجمعية التعاونية لبائعى الصحف».
يذكر حنفى أنه إلى جوار إعلانات نعى الشيخ كان ثمة شىء لافت للنظر، ففى ثنايا النعى جاء خبر: «ومما يذكر أن مجلس الإذاعة اللاسلكية كان قد قرر منذ أسبوع زيادة الأجر المحدد لإذاعة الشريط المسجل للفقيد من خمسة جنيهات إلى سبعة جنيهات ونصف الجنيه، على أن تكون الإذاعة مرتين فى كل أسبوع».. يرصد «حنفى» مفارقة هى.. فى يوم 10 مايو 1950 غصت جنازة ضابطين طيارين هما زكى عجرمة وأحمد قنديل بالمسؤولين، يتقدمهم الفريق محمد حيدر باشا القائد العام للقوات المسلحة، بينما غاب الحضور الرسمى عن جنازة الشيخ رفعت، وفى صحيفة الأهرام يوم 11 مايو، حملت صفحة إعلانات النعى صورة التقطت للجنازة الرسمية للضابطين، وإلى جوارها نعى للشيخ أرسل به ودفع تكلفته سائق من طنطا يدعى كمال الحلو، ويأتى مع نعى سائق طنطا نعى آخر من المدعو أحمد منير القصبى بوزارة الشؤون، ونصه: «الشيخ محمد رفعت: عرفتك روحًا طاهرة كالثلج على أجنحة الرياح، رقيقة كأنفاس النسيم فى فم الصباح، ونفسًا أبية سارع إليها المحسنون فيما ظنوه ساعة العسر، فردت إليهم إحسانهم شاكرة لا عن سعة وإنما عن عفة ورضا بما قسم الله.. أحبك المسلمون وغير المسلمين، لأن تلاوتك كانت حلوة كحلاوة الإيمان، تفجر الرحمة فى القلب والدمع فى العين، فالقرآن اليوم حجة لك لاعليك، فهنيئا لك، وسلام لك من أصحاب اليمين، وسلام عليك حتى نلتقى فى نور اليقين».