منذ اللحظة الأولى لتفجر الأوضاع فى فلسطين المحتلة، وسياسات الاحتلال، بدا الموقف المصرى هو الأكثر اتساقا، إدانة للعدوان، مساع لوقفه وفتح المعبر وتجهيز المستشفيات فى العريش والإسماعيلية وإرسال سيارات إسعاف مجهزة لعلاج ونقل الجرحى، القاهرة تتحرك من منطلق مسؤولية، من الفعل وليس رد الفعل، عبر اتصالات مكثفة، لإقرار وقف فورى لإطلاق النار وإحياء مفاوضات جادة.
ومن فرنسا أعلن الرئيس السيسى، موقف مصر الثابت داعيا لوقف أعمال العنف فى أسرع وقت ممكن، والتوصل إلى حل عادل وشامل يضمن حقوق الشعب الفلسطينى وإقامة دولته المستقلة وفق المرجعيات الدولية، كان التحرك المصرى نحو الهدف ومن دون تجاهل للقضية الأهم، وحسب وزير الخارجية سامح شكرى «حل الدولتين لا يزال الخيار العملى الوحيد مؤكدا أنه «لا سلام دون حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية».
وأجرى شكرى اتصالات مع نظرائه، وزراء خارجية الأردن وروسيا وإسرائيل وألمانيا والسعودية وفرنسا وإيرلندا بجانب والولايات المتحدة الأمريكية وقطر واليونان وهولندا وتونس.
ثم جاء إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسى الأقوى بتقديم 500 مليون دولار لإعادة إعمار غزة، من خلال الشركات المصرية مع استمرار تدفق قوافل الغذاء والدواء والوقود إلى غزة، وبالرغم من العناد والصلف من الاحتلال قال مسؤول إسرائيلى لرويتر إن مصر كانت الوسيط الأكثر فاعلية.. وحظيت مبادرة القاهرة للتهدئة بدعم أمريكا والاتحاد الأوروبى.
بدت مصر هى الأقوى والأكثر تواصلا وارتباطا بأوراق القضية، وهى مواقف لم تولد فجأة لكنها نتاج لسياسة واضحة وقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى على مدى سنوات، وتكفى نظرة على خرائط الصراع فى المنطقة والإقليم شرقا وغربا.
حرصت مصر على فتح خطوط اتصال متواصلة بندية مع كل الأطراف الدولية الكبرى، فى عالم تحكمه المصالح، واصلت علاقاتها مع الولايات المتحدة، مع رسم علاقات قوية مع القوى الكبرى، الصين وروسيا واليابان والاتحاد الأوروبى كأطراف فاعلة ولاعبين أساسيين فى السياسات الدولية كما أكدت التحرك فى دوائرها التقليدية العربية والإسلامية والأفريقية، كما حرصت على تمتين علاقاتها مع دول البحر المتوسط وإعادة ترسيم الحدود فى شرق المتوسط، لحماية ثروات الغاز ومنح كل طرف حقوقه.
خلال 8 سنوات فقط تحولت مصر إلى مركز رئيسى للغاز فى المنطقة، وواجهت تحديات فى الغرب من تدخلات خارجية، نجحت بسياسة الفعل فى فرض وجهة نظرها فى القضية الليبية، واقترب الليبيون من التوصل إلى استقرار بعد سنوات من الفوضى.
لم تتوقف مصر فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى عن بناء استراتيجيتها فى أفريقيا بشكل يضمن مصالحها ومصالح الدول الأفريقية، والعلاقات مع السودان الشقيق شماله وجنوبه، استراتيجية لا ترتبط بأهداف مؤقتة لكن سياسة مستمرة تقوم على تقديم الدور الراعى والمساند للدول الأفريقية، انطلاقا من مسؤولية مصر، فى وقت تنكفئ فيه كل دولة على مشكلاتها الخاصة، وكانت هذه السياسة سواء أثناء رئاسة مصر للاتحاد الأفريقى أو بعدها، وكانت الدورة التى رأستها مصر واحدة من أكثر الدورات نشاطا.
ومؤخرا كان مؤتمر باريس لدعم السودان، بحضور الرئيس عبدالفتاح السيسى، والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ورئيس مجلس القيادة السودانى الفريق عبدالفتاح البرهان ورئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك، ووفد ضم 31 مسئولا حكوميا سودانيا والذى انتهى بإسقاط 5 مليارات دولار ديون على السودان من فرنسا مع وعود فرنسية بتقديم 1.5 مليار دولار قروض لتسديد متأخرات لصندوق النقد ودول أخرى وقرض من البنك الدولى 2 مليار دولار، واتجاه لدعم السودان. ويشارك فى المؤتمر عدد كبير من الدول وممثلين من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى ورجال الأعمال وعدد كبير من المنظمات الدولية والعربية والأفريقية، فضلا عن 15 رئيسا أفريقيا، وممثلى عدد من مؤسسات التمويل الدولى، ورئيس المفوضية الأوروبية وعدد من مسؤولى الدول الأوروبية ومجموعة السبع الصناعية الكبرى ومجموعة العشرين، والهدف دعم انخراط السودان فى المجتمع الدولى بعد رفع اسمه من قوائم الإرهاب، وتنوير المستثمرين بالإصلاحات الاقتصادية بالسودان وإبراز فرص الاستثمار، وأتاح المؤتمر فرصة لطرح دعم الاستثمار فى أفريقيا.
مصر تفعل ذلك من واقع مسؤوليتها، ولم تتوان عن تقديم مساعدات وخبرات وقوافل لمساعدة الدول الأفريقية فى مواجهة فيروس كورونا. بل تم فتح الباب للأفارقة للاستفادة من مبادرات 100 مليون صحة.
إن مصر اليوم بقوتها إقليميا ودوليا لم تولد فجأة ولا يمكن فهمها من دون النظر إلى تراكمات الأحداث والتحولات خلال عشر سنوات، والنظر إلى خطط واستراتيجيات تبدو مختلفة عما كان قبل 8 سنوات فقط، عندما كانت تواجه تهديدا وجوديا من الإرهاب، وداعش يعلن دولة الخلافة فى سوريا والعراق، 29 يونيو 2014 وليبيا تحت سيطرة الميليشيات التكفيرية، مع تدفق الأموال والسلاح وإطلاق نقاط لتجنيد الشباب فى الدول العربية وأوروبا للانضمام إلى داعش فى سوريا والعراق، والقتال فى ليبيا وسيناء، قدرتهم جهات دولية وأوروبية بنحو 18 ألفا، وقدر حجم الإنفاق على داعش وإخوته بنحو 84 مليار دولار.
قبل 8 سنوات فقط بدا أن الشرق الأوسط ينحدر إلى فوضى كبيرة وبدأ النظام الإقليمى يفقد توازنه، كل دولة تنكفئ على نفسها، بينما مصر وسط الكثير من التزاحم والتحديات، وجدت وقتا للعمل داخل محيطها، والحفاظ على التوازن فى محيط مشتعل، واجهت الإرهاب باستراتيجية واسعة لا تتوقف على سيناء، واجهت تهديدات من الغرب، والشرق.
كانت مصر تواجه تراجعا فى الاقتصاد وتآكلا فى الاحتياطى النقدى لأقل من 16 مليار دولار، ونسبة نمو بالسلب، والتصنيفات الاقتصادية سلبية، والبطالة فى أعلى معدلاتها مع تضخم خطر، بدأت مصر بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى ترتيب أوراقها ووضعت استراتيجيتها، بإصلاح اقتصادى مؤلم، واستعادة التنمية لقوتها، فى الزراعة والصناعة، والعشوائيات، ومكافحة فيروس الكبد سى، وإطلاق مبادرة 100 مليون صحة، والبدء فى تأمين صحى شامل، وخطط لإنهاء العشوائيات ونقل سكانها الى مجتمعات إنسانية متكاملة.
كل هذا من دون إهمال للملفات الخارجية والإقليمية «مصر لا تتدخل فى الدول الأخرى وترى أن رسم السياسات المتعددة من شأن شعبها، وفى نفس الوقت مصر تحمى أمنها القومى ولا تسمح بأى تحركات من شأنها أن تخل بالاستقرار فى المنطقة»، هكذا تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى فى منتدى شباب العالم ديسمبر 2019، مؤكدا أن عودة الاستقرار للإقليم العربى مصلحة للجميع، يوفر الفرصة للتنمية والتراكم فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية، بالشكل الذى يسهل البناء بينما التفرغ لمواجهة الإرهاب فقط يخل بالقدرة على البناء المستمر. واستشهد الرئيس بحالات دول دخلت فى الفوضى أو ضربها الإرهاب، وفشلت أمنيا واقتصاديا، محذرا مما أسماه «تسلسل أزمات».. أزمة يترتب عليها أزمة.
اختارت مصر طريقا صعبا، وهو مواجهة الإرهاب، واستمرار جهود التنمية، إقليميا لم تتجاهل أن الأمن القومى المصرى يمتد فى كل الاتجاهات، بما يفرض على القاهرة أن تكون متيقظة لما يجرى، رسمت حدود أمنها القومى، استنادا إلى وحدة وقوة الدولة الوطنية باعتبارهما أساس الاستقرار والتنمية، وموقف ثابت تجاه القضايا العربية والإقليمية والدولية.
الرئيس عبدالفتاح السيسى، أكد دائما أن مصر لا تتدخل فى شؤون الدول الأخرى، وترى أن رسم السياسات المتعددة من شأن شعبها، وفى الوقت ذاته تحمى أمنها القومى، ولا تسمح بأى تحركات من شأنها أن تخل بالاستقرار فى المنطقة، ويرى السيسى أن عودة الاستقرار مرة أخرى للإقليم العربى مصلحة للجميع، لأنه يوفر الفرصة للتنمية والتراكم فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية.
تحركت مصر بخطى ثابتة تجاه كل الملفات، بخطوط حمراء لأمنها القومى، وصبر فى الكثير من الملفات، واليوم تتجه ليبيا إلى الحل، ويتجه السودان للخروج من أزماته، وتوافق مصر والسودان تجاه أزمة سد النهضة، يؤكد صحة الرؤية المصرية، فى منطقة مشتعلة كادت تحترق فى صراع لا نهائى، ولكل هذا امتلكت مصر القدرة والقوة، استنادا لقوة الموقف الداخلى والاقتصادى بشهادة المنظمات الدولية، وامتلاك علاقات وأوراق تأثير تقوم على دعم الدولة والوطنية وامتلاك أدوات التأثير.