عادل السنهورى

قارئات القرآن فى الإذاعة المصرية

الخميس، 20 مايو 2021 12:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فى رحلة البحث الطويلة عن حياة شيوخنا الذين اتجهوا للإنشاد الدينى والغناء، صادفتنى قضية أخرى مهمة للغاية رأيت تأجيل الحديث عنها إلى حين الانتهاء من كتابة حلقات شيوخ الطرب فى مصر خلال شهر رمضان الماضى. والآن أعود لطرح القضية مرة أخرى وما مصيرها ولماذا لم يكتب النجاح لها فى الإذاعة المصرية.

قضية قارئات القرآن فى مصر ولماذا لم تستمر هذه الظاهرة التى لها جذور تاريخية منذ أيام محمد على باشا فى بدايات القرن التاسع عشر.

تصوروا أن مصر ظهر بها قارئات للقرآن على قدم المساواة مع المقرئين الرجال منذ أكثر من 200 عام ولم يعترض أحد وتقبلها المجتمع قبل أن يسيطر على المزاج المصرى فقهاء النكد والتشدد والتطرف من أصحاب التحجج بأن "صوت المرآة عورة". الظاهرة اختفت سنوات طويلة، وفى كل عام كان يتجدد السؤال على استحياء.. أين الإذاعة من قارئات القرآن؟

فى عام 39 قاد بعض رجال الدين دعوة رفض قارئات القرآن الكريم وأفتى بعض المشايخ بأن صوت المرأة عورة، وقررت الإذاعة المصرية الرسمية منع الشيخة كريمة العدلية، والشيخة منيرة عبده، من تلاوة القرآن عبر أثير الإذاعة، بعد أن وصلت أصواتهما إلى إذاعتى لندن وباريس، وبعد أن اقترب أجر منيرة عبده من أجر الشيخ محمد رفعت.

بعد قرار الإذاعة اختفت الشيخة منيرة من الإذاعة، وتوقفت إذاعة لندن وإذاعة باريس عن إذاعة أسطوانتهما خوفاً من غضب المشايخ الكبار.

ويمر وقت طويل حتى خاض الشيخ المستنير الراحل أبو العينين شعيشع الذى تولى نقيب قراء القرآن الكريم فى مصر معركة شرسة مع الإذاعة المصرية عام 2009 عندما تقدم بطلب الموافقة على قبول قارئات للقرآن فى الإذاعة، بعد قبول النقابة لعضوية عشرات القارئات.

المفاجأة أن الإذاعة المصرية الرسمية رفضت الطلب وبشدة بحجة أن صوت المرأة عورة. وتزعمت حركة المعارضة لطلب الشيخ شعيشع السيدة هاجر سعد الدين، رئيسة شبكة إذاعة القرآن الكريم سابقاً، ورئيسة لجنة اختيار القراء فى الإذاعة.

حجة السيدة هاجر سعد الدين هى نفسها حجة مشايخ ما قبل الحرب العالمية بأنه كما قالت فى تصريحات صحفية وقتها: "لا ضرورة الآن لذلك، خاصة أنّ القرآن الكريم له آداب وأخلاقيات معينة يجب على النساء الالتزام بها. وبعدها بثمانى سنوات كررت الكلام ذاته وبررت رفضها بأنه "إذا كان هناك أصوات رجال فلماذا نلجأ للنساء" و"حتى لا يخضع الذى فى قلبه مرض".

بالعودة إلى الشيخ شعيشع، فالرجل لم يبتدع شيئا من عنده ولم يأت بأمر شططا، فرغبته لم يقف فى طريقها لا شرع ولا عادات وتقاليد ولا تاريخ اجتماعي. فرغبة هذا الشيخ الجميل كان لها جذورها التاريخية، عندما اشتهرت قارئات القرآن الكريم فى مصر منذ أيام محمد على، وقبل أن يسيطر فقه النكد ومشايخ الغبرة على المشهد العام.

لكن من هن أشهر قارئات للقرآن فى مصر؟

فى كتابه "ألحان السماء" يشير الكاتب الأستاذ محمود السعدنى إلى أنه فى يوم من الأيام كانت هناك قارئات للقرآن فى الإذاعة المصرية، نافست إحداهن الشيخ محمد رفعت هى السيدة نبوية النحاس التى توفيت عام 1973 وبموتها انطوت صفحة رائعة من كتاب فن التلاوة والإنشاد الدينى فى العصر الحديث، لينتهى الحديث عن قارئات القرآن، قبل عام من صعود جماعات الإسلام السياسى فى مصر، بداية من الجماعة الإسلامية، مروراً بجماعة الجهاد، ثم الإخوان.

"أم محمد" أول من احترفن قراءة القرآن الكريم من السيدات فى مصر، فى عصر محمد على، مؤسس مصر الحديثة، يقول عنها السعدني: "كانت تقوم بإحياء ليالى المآتم فى قصور قُواد الجيش وكبار رجال الدولة، وكانت موضع إعجاب الباشا محمد علي.. ودفنت فى مقبرة أنشئت خصيصاً لها فى الإمام الشافعى، وجرت مراسم تشييع الجنازة فى احتفال عظيم".

ورغم وجود عشرات القارئات فى مصر منذ عصر محمد على، فلا توجد غير بعض المصادر القليلة التى يمكن الرجوع إليها لمعرفة تاريخهن، مثل كتاب "ألحان السماء" للسعدنى، والذى قدم ترجمة لهن فى خمسة صفحات فقط من كتابه، ولا توجد إلا تسجيلات نادرة جداً لهؤلاء القارئات، وأشهرهن، كريمة العدلية، منيرة عبده، وسكينة حسن، وخوجة إسماعيل، ومنيرة أحمد المصرى، ونبوية النحاس.

مع إنشاء الإذاعة الرسمية فى القاهرة كانت الشيخة منيرة فى طليعة الذين رتلوا القرآن من خلال موجاتها. وقبل منع صوت قارئات القرآن الكريم نهائياً من الإذاعة، كان يحجب صوتهن خلال شهر رمضان من كل عام، كما أشار الباحث عصمت النمر فى مقال نشرته مجلة "الهلال" المصرية.

انتشار قارئات القرآن فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين جاء طبيعيا ومقبولا وغير مستهجنا أو مستنكرا، ويعود إلى تقاليد تمسكت بها الأسرة المصرية فى تلك الفترة، يشير السعدنى إليها فى كتابه، حيث "كانت ليالى المآتم تقام ثلاثة أيام للرجال وثلاثة للنساء، وكان لا بد من وجود قارئات لإحياء ليالى المآتم عند السيدات، وفى البداية لم تكن هؤلاء السيدات يحترفن مهنة ترتيل القرآن، ولكنهن كن يحترفن مهنة النياحة، أو المعددات كما كان يطلق عليهن أبناء الشعب، وأشهر هؤلاء كانت الحاجة دربالة بالجيزة، وعندما كانت تحترف النياحة كانت قادرة على أن تستدر الدمع من عيون الصخر، ثم احترفت قراءة القرآن فترة من الوقت".

ويرصد السعدنى أيضاً إلى جانب الحاجة دربالة، الحاجة خضرة فى المنوفية، والست عزيزة فى الإسكندرية، والست رتيبة فى المنصورة، والشيخة أم زغلول فى السويس.

يقول السعدني: "والغريب أنهن جميعاً كن يحترفن النياحة فى المآتم قبل أن يتحولن إلى قارئات، والنياحة مهنة معروفة فى مصر، ويبدو أنها ميراث من قدماء المصريين، الذين كانوا يحتفلون بالميت أربعين يوماً بالتمام والكمال".

وتوجد بعض التسجيلات النادرة لسيدة الغناء العربى أم كلثوم وهى تقرأ القرآن، وتحت عنوان "أم كلثوم والقرآن"، ذكرت نعمات أحمد فؤاد، ضمن كتاب "أم كلثوم وعصر الفن،" وفى سنة 1958 نشرت الصحافة المصرية اقتراحاً أن يسجل القرآن كله بصوت أم كلثوم وهذه المسألة سبق وأن أثيرت عام 1950".

أما منيرة عبده هى القارئة التى تسببت فى غضب المشايخ الكبار، الساعين لحجب صوتها عن الإذاعة بحجة أنه عورة، بدأت ترتيل القرآن فى الإذاعات الأهلية المصرية وهى فى الثامنة عشرة من عمرها، عام 1920، ذكرها السعدنى فى كتابه: "أحدث ظهورها ضجة كبرى فى العالم العربى، ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت الشيخة منيرة نداً للمشايخ الكبار، وذاع صيتها خارج مصر، وتهافتت عليها جميع إذاعات مصر الأهلية".

ومن القصص اللافتة للانتباه، والتى رصدها السعدنى، قصة أحد التجار الأثرياء فى تونس، والذى طلبها لإحياء شهر رمضان فى قصره بصفاقس، بأجر ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم فى تلك الفترة، غير أنها رفضت، فحضر التاجر لقضاء شهر رمضان فى القاهرة؛ لسماع تلاوتها للقرآن الكريم.

ومع إنشاء الإذاعة الرسمية فى القاهرة، مطلع الثلاثينيات من القرن الماضى، كانت الشيخة منيرة فى طليعة الذين رتلوا القرآن من خلال موجاتها، يقول السعدني: "كانت تتقاضى خمسة جنيهات، فى الوقت الذى كان يتقاضى فيه الشيخ رفعت عشرة جنيهات".

وظهرت كريمة العدلية فى عصر الشيخ على محمود، سيد قراء زمانه، وكتب عنها السعدني:"وصل صوتها للعالم العربى كله من خلال الميكرفون أيام الإذاعات الأهلية، وعاشت حتى تمصير الإذاعة، وظلت تذيع القرآن بصوتها العذب إلى فترة الحرب العالمية الثانية".

واعتبرها السعدنى أشهر قارئات القرآن الكريم فى زمانها، وأشار أيضاً إلى قصة حب شديدة بين الشيخة كريمة والشيخ على محمود: "كانت تعشق صوته وطريقته الفذه فى الأداء، وكان هو يفضل الاستماع إليها، ويفضل صوتها على أصوات بعض القراء، وكثيراً ما كانت تصلى الفجر فى الحسين فى الركن المخصص للسيدات لكى تتمكن من سماع صوت الشيخ على محمود وهو يرفع أذان الفجر بصوته الذى ليس له مثيل".

ويشير الباحث عصمت النمر فى مقال الهلال: "وذكر الكثير من المؤرخين أن الشيخ على محمود جمعته بالشيخة كريمة العدلية قصة حب شديدة وكان الشيخ على محمود يفضل صوت كريمة العدلية على كثير من القراء الرجال، وكى ندرك أهمية ذلك. يكفى أن نعرف أن الشيخ على محمود كان من تلامذته الشيخ الجليل محمد رفعت، والشيوخ، طه الفشنى، وكامل يوسف البهتيمى، وإمام الملحنين الشيخ زكريا أحمد، والموسيقار محمد عبد الوهاب الذى تعلم على يديه الكثير من فنون الموسيقى، وسيدة الغناء العربى أم كلثوم، وأسمهان. فالشيخ على محمود كان موسيقياً له باع بجانب كونه مقرئاً، وكان من أهم مؤسسى فن الإنشاد والتواشيح".

ورغم إشارة السعدنى فى كتابه إلى انتهاء عصر تلاوة النساء مع وفاة نبوية النحاس إلا أن ذلك العصر انتهى فقط مع أثير الإذاعة المصرية، ولا تزال القارئات المصريات متواجدات وعضوات فى نقابة قراء القرآن الكريم بالعشرات، وحارب من أجلهن آخر رواد دولة تلاوة القرآن فى مصر، الشيخ أبو العينين شعيشع حتى وفاته عام 2011، غير أن الإذاعة المصرية رفضت السماح لهن بالتلاوة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة