الإمام أبو حنيفة النعمان، صاحب مدرسة فقهية ذات شأن ومكانة فى الفكر الإسلامي، وربما من عوامل تميزها أن صاحبها وعى قضايا عصره وما كان من ظروف بيئته السياسية والاجتماعية، ومنها أيضا تفهمه المستجدات التى نشأت مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية ودخول الناس فى دين الله أفواجا، لتتبلور ثقافة تلك الدولة التى سرعان ما تواصلت مع الثقافات الأجنبية الأخرى، والحقيقة أن هناك الكثير تكلم عن الرجل وسيرته، ومذهبه وأرائه أيضا، لكن فى كتاب "أبو حنيفة والقيم الإنسانية فى مذهبه" حاول المؤلف محمد يوسف موسى، الحديث عن القيم فى فقه الإمام المجتهد والمجدد.
وعرض الكتاب المؤلف للأراء المختلفة بين عدد من الباحثين حول مذهب أبو حنيفة، مستشهدا بأراء بعض المستشرقين فى هذه المسألة، حيث أخذه بعض من كتبوا من المسلمين فى تاريخ الفقه وتبنَّوه وأخذوا يدافعون عنه، كما نرى آراء أخرى للمستشرقين وغيرهم تخالف ذلك الرأى تمامًا، ومنهم «جويِنبل» المستشرق الإنجليزى المعروف، يؤكد — فيما كتبه عن أبى حنيفة فى دائرة المعارف الإسلامية — أنه لا أساس لما يراه كثير من الكتاب الأوروبيين من أنه اصطنع أصولًا مبتكرة، وأنه أسَّس مذهبًا اعتمد فيه كل الاعتماد على القياس.
أبو حنيفة والقيم الإنسانية في مذهبه
وعلى الضد من ذلك الرأى الخاطئ قال آخرون من كبار المستشرقين الأعلام بأن أبا حنيفة جَدِير بأن يُنسب إليه المذهب الذى عُرف ولا يزال يُعرف به، ونكتفى هنا بذكر آراء اثنين من هؤلاء الأعلام، وهما: إدوارد سخاو، وجولدتسهير.
فقد جاء عن الأول، فى بحث نُشر بمدينة «فيينا» عام 1780م عنوانه: «حول أقدم تاريخ للفقه الإسلامي» أن أبا حنيفة هو «إمام أصحاب الرأي» كما يسميه الخطيب فى تهذيب النووى «صاحب الرأي» كما يذكر ابن قتيبة فى كتابه «المعارف». وأشار بعد ذلك إلى أن ابن النديم ذكره على رأس العراقيين «أصحاب الرأي»، وأورد فى هذا أبياتًا لمسعود الوراق يمدح الإمام بها.
ويذهب المؤلف إلى أن هذا الإمام أبو حنيفة كان يحتم الأخذ بما يبرئ الذمة بيقين عند اختلاف الروايات، ويسعى جهده فى عدم إهدار تصرُّف العاقل بقدر ما يمكن، ويرعى جانب الفقراء والأرقَّاء وسائر الضعفاء فى الأحكام المختلف فيها، ويفسر الأدلة المحتملة بما هو فى مصلحة من تُوقَّع عليه العقوبات أخذًا بقاعدة درء الحدود بالشبهات.
نحن نرى أن ترجيح هذا الجانب أو ذاك غير ميسور لنا الآن، ولن يكون ميسورًا إلا إذا استقصينا آراءه فى المسائل التى عُنى ببيان وجه الحق فيها، وهيهات أن يصل باحث إلى هذا الاستقصاء! فهذه المسائل بلغت من الكثرة حدًّا يكاد يتعذر معه الوقوف عليها جميعها، وحسبنا أن نشير إلى أنها بلغت فى رأى بعض من كتبوا عنه مئات الآلاف! وذلك فضلًا عن أنها منثورة هنا أو هناك فى تضاعيف الكتب التى ليست بين أيدى الباحثين اليوم.