يفاضل الشيخ سيد مكاوى بين مشايخ الطرب، ويذكر أن أحب هؤلاء إلى نفسه هما الشيخ زكريا أحمد فى الأغنية العاطفية، والشيخ سيد درويش فى الأغنية الجماعية والوطنية وأغانى الطوائف، «ولذلك أطلق علىّ بعض الناس «خليفة سيد درويش»، لأنه كان فنانا عبقريا، وسر عظمته أنه لحن كلام الناس فى الحياة اليومية العادية، فأعظم ما قدمه للناس هو ألحان الطوائف، وتبعته أنا فى هذا عندما لحنت الليلة الكبيرة لمسرح العرائس ولحنت أيضا المسحراتى».
ولد سيد مكاوى، الشيخ الضرير، فى الثامن من مايو 1926، فى حارة «قبودان» بحى الجزيرة فى عابدين، وكانت أسرته جميعا تتميز بحلاوة الصوت وحب الغناء والطرب، رغم الفقر الذى يحيطها، كان والده بائعا متجولا، يحمل بضاعته على عربة يد يدفعها أمامه متنقلا بين حارات حى عابدين وشوارعه، وهو ينادى على البضاعة نداء جميلا يرسله مغنى فى عذوبة تسر نفوس سامعيه وتجعلهم يقبلون على بضاعته حتى إذا فرغ من البيع وعاد إلى بيته قانعا بما منّ عليه الله به من رزق، أنفق ليله منصتا للفونوغراف القديم الذى يملكه، وأسطوانات الأغانى التى زادت على ثلاثة آلاف أسطوانة، جمعها على مدار سنوات عمره لكل التراث الغنائى القديم، وبأصوات أساطين الغناء والملحنين والموسيقيين، وفى هذه الفترة التى ولد فيها الشيخ سيد مكاوى، كان الطرب يخلو من كل شائبة، واتخذ طابعه الشرقى الأصيل، وكان له أساطينه ونجومه المتألقون الذين تآلف الناس على عشق أغانيهم وأصواتهم، على أن كارثة لم تلبث أن حاقت بالشيخ سيد فى العام الثانى لمولده، فقد أصيبت عيناه بالرمد، ولم تجد الأسرة ما يكفى للذهاب به إلى طبيب العيون، ولجأت أمه إلى علاجه بالوصفات البلدية، وفقد نتيجة لذلك بصره وأصبح ضريرا، ولم تنفع زيارات الأم للشيوخ وأولياء الله بحثا عن شفاء ابنها.
ولما بلغ الطفل السادسة من عمره، أرسلوه إلى كتّاب قريب من الحى لكى يحفظ القرآن الكريم، فقد كانت هذه هى فرصة التعليم الوحيدة المتاحة أمامه، لكن شيخ هذا الكتاب كان فظا قاسيا فى معاملة تلاميذه، فكره الصبى الذهاب إليه وبدأ يهرب من الكتاب إلى البيت ليجلس وسط مجموعة الأسطوانات التى يملكها والده، ويقضى الساعات الطويلة مستمعا إلى الفونوغراف، وهو يردد الأغانى القديمة، وكانت أسعد لحظات حياته تلك التى يقضيها فى سماع عبده الحامولى ومحمد عثمان والشيخ الصفتى والشيخ يوسف الميلاوى وغيرهم، وفى هذا الجو الموسيقى تفتحت موهبة الشيخ سيد مكاوى، وحفظ أغلب هذه الأغانى كما يؤديها أصحابها، وذهب إلى كتاب آخر فى الحى كان شيخه سمحا ورحيما بالصبى، معجبا بصوته، فلم يأل جهدا فى أن يجعله يحفظ القرآن ثم يبدأ فى تجويده.
وما إن أتم الشيخ سيد حفظ القرآن وأجاد القراءة والتلاوة، حتى أصبح جاهزا للعمل الوحيد الذى يمكن أن يمارسه صبى ضرير.
أخذ يتردد على البيوت وبعض الأماكن فى الحى لكى يقرأ الآيات القرآنية، وسرعان ما اشتهر فى الحى كله، وبدأ الناس يقبلون عليه لكى يقرأ القرآن الكريم فى المناسبات، على أن الشيخ سيد مكاوى كان يحلم بأكثر من أن يكون مقرئا للقرآن، كان يسعى شغوفا إلى إشباع هوايته للموسيقى والغناء، فجمع بعض المشايخ الذين يماثلونه، وكوّن منهم فريقا لإحياء الموالد والأفراح بإنشاد التواشيح وقصائد المديح النبوية، وكان الحى محصورا بين الأزهر والسيدة زينب، وكانت فرقة الشيخ سيد مكاوى من المشايخ الصغار تجد فرصا أكبر فى موالد سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة سكينة والسيدة نفيسة وسيدى زين العابدين، والناس فى تلك البقعة من الأحياء الشعبية يحفلون كثيرا بهذه الموالد ويتوافدون من أعماق الريف بالألوف لكى يتجمعوا فى شوادر تسد الطرقات والأزقة المؤدية إلى أضرحة آل البيت، رضوان الله عليهم جميعا.
وفى بعض الليالى، التى كان الشيخ سيد مكاوى يحييها مع فريقه من المشايخ الشبان، كان يحلو له أن يجرب غناء بعض الأدوار والأغانى التى حفظها فى صباه، مثل أغنية عبده الحامولى «قدك أمير الأغصان»، أو أغنية الشيخ أبوالعلا محمد «أفديه إن حفظ الهوى»، وكانت نتيجة هذا أن كره أهل الحى منه هذا، وهم الذين ألفوه مقرئا حلو الصوت لآيات الذكر الحكيم، وما ألفوه مطربا أو مغنيا للأغانى العاطفية، وقل إقبالهم عليه وانصرفوا عن دعوته إلى إحياء المناسبات الدينية فى بيوتهم، فقل دخله وعاد من جديد يعانى من الحرمان والجوع والفقر، خاصة وقد مات والده، وكان عليه أيضا أن يعول عائلته.
كان الشيخ سيد مكاوى فى شبابه، وكان الفقر لا يوقفه ولا يحد من تلك الرغبة الجامحة فى نفسه بأن يصب الموسيقى الشرقية الأصيلة من منابعها التى كانت تجد حراسا يناصرونها ضد التشويه والمسخ بالنقل من الموسيقى الغربية، بل إنه كان يتابع أخبار الشيخ محمد رفعت الذى كان صوته من أحلى الأصوات التى رتلت القرآن الكريم وقرأته.
وكان يجلس بين المستمعين له ويقول عنه: «لا يكاد يبسمل حتى يسكت الناس كأن على رؤوسهم الطير، وينطلق صوته فيحملهم إلى آفاق سماوية وروحانية وقد كنت أشعر بالنشوة والامتلاء بالمتعة الروحية».
وبدأ الشيخ سيد مكاوى يلتفت إلى أغانى أم كلثوم، وألحان الشيخ زكريا أحمد، وأغانيه، وإلى مجموعة أخرى من الملحنين الذين يحافظون على النغم الشرقى الأصيل، مثل محمود الشريف، وأحمد صدقى، فى مواجهة موجة التجديد والتطوير والاقتباس من الموسيقى الغربية، وتطعيم الموسيقى الشرقية بنغمات غربية، بل وتطويعها للعزف على آلات غربية أيضا، وكلما أحس الشيخ سيد مكاوى بالغربة فيما يسمعه من هذا السيل، عاد إلى الجذور الأصيلة من ألحان سيد درويش وأغانى الحامولى وألحان وقصائد الشيخ أبوالعلا محمد.
وفى بحثه عن منابع الموسيقى الشرقية، طرق أبواب معهد فاروق للموسيقى العربية، معهد المسويقى العربية فيما بعد، ودخل مثل غيره من الراغبين فى الالتحاق بالمعهد امتحان القبول بالمعهد، فرفضوا أن يقبلوه فى عداد التلاميذ، وقالوا له: «لا نستطيع أن نقبلك كتلميذ فمعلوماتك ومواهبك الموسيقية تضعك فى عداد المدرسين والأساتذة فى المعهد».
وهمس فى أذنه بعض الأساتذة فى المعهد بأن يتجه إلى الإذاعة لكى يغنى فيها، فهو يملك الصوت الحلو والموهبة الموسيقية الأصيلة التى تؤهله للنجاح وشق الطريق للميكروفون كمطرب وكملحن»، كانت الإذاعة بالفعل وسيلة مضمونة ومشروعة للهروب من حصار الحاجة والعوز.
فضلا عن أنها بداية الاعتراف بالموهبة الصوتية والموسيقية التى تشبه جواز المرور إلى الحياة الفنية، وبدأ الشيخ سيد مكاوى الخطابات للإذاعة، لكن كان مصيرها الإهمال، الواحد بعد الآخر، وبعد أن يئس من تلقى رد على خطاباته حمل نفسه وذهب ليلتقى بوكيل الإذاعة فى ذلك الوقت عبدالحميد يونس، وليسأل عن مصير خطاباتهو وكانت نتيجة النقاش أن اتخذ قرارا بأن يسجل الشيخ سيد مكاوى أغنية واحدة، بشرط أن يتحمل أجور الموسيقيين والعازفين ونفقات التسجيل إذا فشلت الأغنية ولم تجزها لجان الاستماع، فاختار أغنية من عيون الأغانى القديمة للمطرب الكبير محمد عثمان، ونجحت الأغنية ونجح الشيخ سيد مكاوى، وأدرج اسمه فى قائمة المطربين الذين تتعامل معهم الإذاعة، لكن الإذاعة اكتفت بوضع اسمه فى القائمة.
وما كان الشيخ سيد مكاوى ليرضى بأن يظل مجرد اسم فى قائمة، وبدأ يطرق كل الأبواب فى الإذاعة لكى يحصل على حقه فى الغناء كما يفعل غيره، ووافقت الإذاعة بعد جهد على أن تسجل له أغنية كان قد كتب كلماتها المخرج السينمائى المعروف أحمد بدرخان، يقول مطلعها : «بدمى يا مصر أفديكى .. أفدى حماكى وأرضيكي».
ثم سجل الشيخ سيد بعد ذلك عدة أغنيات خفيفة مما اعتادت الإذاعة أن تقدمها فى فترة الصباح، مثل «يا نسيم القمر» و«اصحى يا محبوب اصحى».
كانت هذه المرحلة فى حياة الشيخ سيد مكاوى غاية فى الضيق والحرج، فقد كان نصيبه من الغناء فى الإذاعة محددا بربع ساعة فقط على مدار العام، وكان ينفق أجره كله عن هذه الربع ساعة على الموسيقيين والعازفين الذين يعملون معه فى تسجيلها، بل كان يدفع من جيبه فوق الأجر الذى يتقاضاه.
وكان الشيخ سيد مكاوى فى تلك الفترة من حياته رب أسرة كبيرة العدد، يجب أن يعولها، وكان يسكن مع عائلته فى بيت قديم «آيل للسقوط» فى حارة السقايين، تحجبه عن عيون مهندسى التنظيم حارة مظلمة رطبة، لا تكاد ترى النور أو الهواء، وكان إيجار البيت لا يزيد على الجنيه الواحد كل شهر، ومع هذا كان الشيخ سيد مكاوى لا يستطيع أن يدفعه، وكان الإيجار يتأخر عليه لشهور عديدة حتى أن صاحب البيت كان يهدده بالطرد، وكان يضطر أحيانا لكى يتفادى تهديدات صاحب البيت أن يبقى بعيدا عنه منذ طلوع الشمس حتى منتصف الليل.
كانت تربة الأغنية المصرية فى النصف الأول من الخمسينيات وبعد ثورة 1952 قد ألقيت فيها بذور التجديد والتطوير وارتفع شعار العودة إلى جذور التراث الموسيقى الذى ينبع من حياة الناس اليومية وإلى الموسيقى الشرقية الأصيلة النقية من شوائب الموسيقى الفارسية والتركية والنغمات الغربية المستوردة، وبدأت حركة إحياء هذا التراث بإعادة تقديم أوبريت سيد درويش، «العشرة الطيبة»، وبدأت تطفو بين برامج الإذاعة الأوبريت الغنائى الإذاعى الذى تستخدم فيه الأصوات الجماعية، مثل ما قدمه من ميكروفون الإذاعة الملحن محمود الشريف فى «الراعى الأسمر»، وأحمد صدقى فى «قطر الندى»، وظهرت مجموعة من شعراء الأغنية الجماعية، مثل صلاح جاهين، وفؤاد حداد، وعبدالرحمن الأبنودى، وسيد حجاب، وعبدالرحيم منصور، ارتادوا جميعا مجال التراث الأصيل للأغنية المصرية القديمة وإحياء تراثها العظيم فى قلوب الجماهير، كان صلاح جاهين أول الصف وكان صاحب الراية فى تلك العودة إلى التأصيل، وكما كان سيد درويش يستمد عبقريته وعظمته من التقاط معاناة الجماهير اليومية ليحولها إلى غناء يرددونه ويغنونه فى قلوبهم، بدأ صلاح جاهين يكتب شعرا عاميا مرسلا على ألسنة الناس وبألفاظهم التى يستخدمونها فى حياتهم اليومية أيضا، ولم يجد من يحمل لواء سيد درويش غير الشيخ سيد مكاوى.
وكانت أول أغنية جماعية يلحنها الشيخ سيد مكاوى من شعر صلاح جاهين يقول مطلعها: «إعمل لنا مفتاح ، يا صنايعى يا فلاح، تفتح أبواب الخير، أسوان مليانة حديد، انهض ومد الإيد، وماتمدهاش للغير».
وكانت تلك هى البداية، بداية عصر عبقرى جديد للموسيقى الشرقية الأصيلة وفارسها الجديد الشيخ سيد مكاوى.
ورغم أن الشيخ سيد مكاوى بعد عدة ألحان جيدة راجت وأحبتها الأذن المصرية، بدأت بعض مطربات مصر المعروفات يتجهن إليه طلبا للألحان الشرقية الأصيلة التى يتقنها سيد مكاوى، كانت أولاهن شادية، ثم أعقبتها فايزة أحمد، ثم سيدة الغناء العربى أم كلثوم. كان اختيار الموقع الذى يدخل منه الشيخ سيد مكاوى إلى الأذن المصرية اختيارا صعبا، فهو لم يكن يؤمن بالأغنية الفردية، وكان يحلم بتكرار تجربة سيد درويش فى أغانى الطوائف، فقد كان سر عبقرية سيد درويش فى رأيه أنه كان يلحن الحياة اليومية للناس بحيث تعيش أغانيه مع الناس ويرددونها فى سهولة ويسر، وكان يتخذ من الأوبريت الغنائى مثل «العشرة الطيبة» والمواقف الغنائية فى مسرحيات الريحانى، وأغانيه هو شخصيا، مجالا لهذا الغناء الجماعى الذى تردده الطوائف من السقائين وعمال البناء وغيرهم.
ولكن هذا البناء للألحان الجماعية، لم يكن متاحا للشيخ سيد مكاوى، إلى أن قاده التطور المسرحى الذى شهدته نهضة الستينيات فى المسرح المصرى إلى شكل جديد متطور هو «مسرح العرائس»، وكان الشاعر صلاح جاهين قد كتب «أوبريت الليلة الكبيرة» أسند إخراجها لصلاح السقا وقدر لهذا الأوبريت أن يعطى الشيخ سيد مكاوى الفرصة فى أن يفجر موهبته القادرة على تلحين الأغانى الجماعية فى أوبريت لا يختلف عن الشكل الذى ارتاده من قبله سيد درويش، وليثبت أنه حقا قد جدد تراث سيد درويش، واستحق أن يحمل ألقاب «امتداد سيد درويش» أو «خليفة سيد درويش» .
وكان نجاح «الليلة الكبيرة» إلى حد أن الأولاد فى الحارات والشوارع والأزقة بدأوا يرددونها ويغنون ألحانها فى سهولة وانطلاق، خاصة بعد أن سجلها التليفزيون وبدأ يذيعها المرة بعد المرة، كان حدثا فى «النغمة» المصرية الجماعية الأصيلة التى افتقدها الناس إلا فى تراث الشيخ سيد درويش، يؤذن بميلاد سيد درويش ثان فى الموسيقى والنغم المصرى.
كان تكليف السيدة كوكب الشرق أم كلثوم لأى ملحن على ساحة الأغنية بإعداد أغنية يعتبر شهادة ميلاد رسمية لهذا الملحن، وكان مجرد سماع صوت أم كلثوم عبر أسلاك التليفون تطلب واحدا من الملحنين وتبدأ فى ممازحته بطريقتها المعهودة وانتهاء هذه المكالمة بطلبها أن تسمع آخر ما عنده من ألحان، أو تطلب منه قراءة قصيدة أو الاتصال بشاعر معين أو مؤلف أغان بعينه اعترافا حقيقيا بأن موهبته قد نضجت وأن ألحانه أصبحت من النضج بحيث تتناسب مع الصوت القمة فى ساحة الطرب، وقد جاءت هذه اللحظة فى حياة الشيخ سيد مكاوى فى أوائل السبعينيات، كان الشيخ سيد قد خاض تجربة الأوبريت من خلال ألحان الليلة الكبيرة لمسرح العرائس واعتبرت تجربته ناجحة إلى حد أن مدير مسرح العرائس، وكان وقتها الصحفى المعروف راجى عنايت، أصر أن يكرر الشيخ سيد مكاوى التجربة بأوبريت جديد للعرائس باسم «حمار شهاب الدين» وطلب من الشيخ سيد مكاوى أن يختار له دورا فيها يغنيه بصوته، وتردد الشيخ سيد مكاوى فى قبول فكرة الغناء، لكنه قبل أمام إصرار راجى عنايت، وشارك مجموعة المطربين فى غناء الأوبريت، وبعد أن تم تسجيل الأوبريت لحنا وغناء، واستمع الشيخ سيد إلى صوته كمطرب، انفرجت أساريره وبدا عليه المرح ومن يومها قرر أن يستمر فى الغناء.
وجاءت أوبريت «قيراط حورية» لتكمل الثلاثية المسرحية المغناة بأصوات جماعية وفردية للشيخ سيد مكاوى، وإن كانت قد ظلت قاصرة على مسرح العرائس، لكن نجاحها لفت الأنظار إلى أن الشيخ سيد يمتلك القدرة والموهبة لتقديم العمل المسرحى الغنائى الدرامى.
وقد كانت تجربة الشيخ سيد مكاوى فى مجال تلحين الأغنية الفردية التى يؤديها صوت واحد متميز الملامح والأبعاد الموسيقية قد بدأت تتسع بأغان للمطربات شادية، وليلى مراد، ووردة، وفايزة أحمد، وبدأت أقدامه ترسخ كملحن تتسم ألحانه بالأصالة الشرقية، ثم جاء دوره بين الصف الطويل الذى بدأ بصفيه وحبيبه الشيخ أبوالعلا محمد، والشيخ زكريا أحمد، ورياض السنباطى، وانتهى بشيخ صناع الأغنية فى زماننا الموسيقار محمد عبد الوهاب، والجيل الشاب المعاصر محمد الموجى وكمال الطويل وبليغ حمدى، ثم أخيرا الشيخ سيد مكاوى.
كان من تصاريف القدر أن تجىء فرصة الشيخ سيد مكاوى مع السيدة أم كلثوم متأخرة، وهى تؤذن بالرحيل، لكنه خاض تجربة معها فى لحنه «يا مسهرنى» بوجهة نظر لم يحد عنها، كانت أغانيها الأخيرة، بما فيها أغانى عبد الوهاب، وبليغ حمدى، والموجى والطويل، قد شهدت إضافة باستخدام الآلات الغربية الحديثة فى العزف مثل الأورج والجيتار، وفى لحنه «يا مسهرنى» التزم الشيخ سيد مكاوى واستبعد كل هذه الآلات الغربية، وأصر على استخدام الآلات الشرقية المعتادة، وقد سأله البعض عن إصراره على استبعاد الأورج والجيتار وكل المعدات التى تدار بالكهرباء، وتعطى رونقا للنغم عندما يعزف، ورد الشيخ سيد مكاوى يومها قائلا:
وهل فقدت أغنية «يا مسهرني» شيئا من رونقها؟ وهل تثاءب جمهور المستمعين أو غلبهم النوم وست الكل أم كلثوم تغنيها؟ أنا ضد من يدخلون هذه الآلات على الغناء الشرقى ويغيرون بها طعمه ومذاقه ونكهته، إن الغناء الشرقى يجب أن يكون طابعا لنا، تسمعه الأذن الأجنبية فتعرف أنه غناء مصرى، غناء عربى، لأننا عندما نسمع أغانيهم نعرف أنها تنتمى إلى جنسيات غربية واضحة، لماذا نمسخ أغانينا وتراثنا الشرقى الأصيل بينما هم يحبون ما فيه من سحر وخيال؟ وإلا فاعطونى سببا واحدا لنجاح مطرب مثل أونريكو ماسياس غير أنه يقدم لونا شرقيا فيه سحر الشرق، واعطونى سببا فى أن كل الأعمال الكبيرة المشهورة للموسيقار الروسى الكبير كورساكوف هى التى اعتمد فيها على أساطير ألف ليلة وليلة، وعبر أغنية «يا مسهرنى» للسيدة أم كلثوم ومن خلال نجاحها أعطيت المثل على أصالة موسيقانا الشرقية، وقربها ورصيدها فى نفوس الناس من الحب والإيثار.
ولم يكن عفوا أن يختار الشيخ سيد مكاوى شخصية «المسحراتى» فى الإذاعة أولا، ثم ينتقل بها إلى شاشة التليفزيون، لتكون حلقة الوصل بينه وبين الناس طوال شهر رمضان، إنها بما فيها من طابع شرقى وما ترمز إليه من معان أصيلة باقية فى نفوس الناس حتى الآن أصبحت وسيطا بين الشيخ سيد مكاوى وكل ما يعتنق ويمثل من مبادئ وتقاليد شعبية وبين أهله وناسه الذين يعيش بينهم. بل وأصبحت ضميرا حيا ينتقد ويوجه ويؤثر فى نفوس المستمعين والمشاهدين.
توفى الشيخ سيد درويش فى إبريل من العام 1998، وحصل على وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى فى مصر والعديد من الجوائز التقديرية الأخرى.