لقاء أشبه ببروتوكول، اعتاد عليه رؤساء أمريكا مع نظرائهم الروس، منذ سنوات قبيل الحرب الباردة، عندما التقى الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، مع أخر رئيس سوفيتى، وهو ميخائيل جورباتشوف، في العاصمة السويسرية جنيف، وهى القمة التي جاءت برعاية من رئيسة الوزراء البريطانية، في ذلك الوقت، مارجريت تاتشر، والتي شعرت حينها بأن جورباتشوف لم يعد يمثل خطرا على المعسكر الغربى، وبالتالي سعت إلى الإبقاء على الاتحاد السوفيتى، على اعتبار أن بقائه يبقى مرتبطا بالنفوذ البريطاني، والدور القيادى الذى تلعبه لندن، في القارة العجوز، خاصة بعد انهيار حائط برلين، وتوحيد الألمانيتين، وهو الحدث الذى ساهم في انقلاب الموازين الأوروبية لصالح برلين، والتي أصبحت القائد الفعلى لأوروبا الموحدة تدريجيا، في السنوات التي تلت الوحدة.
وللحقيقة فإن ريجان يبقى صاحب نصيب الأسد فيما يتعلق بالقمم التي عقدها مع جورباتشوف، سواء من حيث العدد، حيث التقاه 3 مرات، خلال سنتين، أو من حيث الأهمية، حيث وقعا العديد من الاتفاقات، أبرزها اتفاقية الحد من التسلح النووي، والتي وقعت في عام 1987، وهى الاتفاقية التي وقعت في واشنطن، ولكن تبقى مدينة جنيف شاهدا على تفاصيلها، حيث اتفقا على أهم ملامحها قبل التوقيع النهائي في أحد الفنادق السويسرية في عام 1985.
وهنا يثور التساؤل حول اختيار مدينة جنيف، لتكون محلا لانعقاد القمة المرتقبة بين الرئيسين الأمريكي والروسى، في 16 يونيو الجارى، خاصة بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاقية، خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، في خطوة ربما أثارت الكثير من الجدل، في ظل مخاوف كبيرة إثر تداعيات هذه الخطوة على مستقبل التسلح النووي في العالم، وما قد يترتب على ذلك من صراعات قد تأكل الأخضر واليابس، لتتعلق أعين العالم إلى المدينة السويسرية على أمل أن تكون إعادة التوافق بين الدولتين، كما كانت قبل 35 عاما، تجاه أحد أكثر القضايا تعقيدا وربما إثارة للقلق، خاصة في السنوات الماضية.
إلا أنه بعيدا عن الوصول إلى تسوية نووية، والمسائل الخلافية الأخرى، والمتعلقة بالأمن السيبرانى، وصراع النفوذ، وما يتخللها من "مواعظ" حقوقية، وغيرها من القضايا الخلافية، فإن "رمزية" جنيف، تحمل العديد من الأبعاد السياسية، خاصة عند استضافة قمة أمريكية روسية، في ظل حالة "المخاض" الدولى الراهن، جراء الصعود الروسى الكبير على قمة المشهد العالمى، تزامنا مع تراجع أمريكى نسبى، يفتح المجال أمام منافسة كبيرة بينهما، في ضوء وجود قوى أخرى، على رأسها الصين، تبحث عن مزاحمتهما على عرش النظام الدولى، في ضوء ما تمتلكه من أوراق سياسية واقتصادية، فتحت لها الباب أمام القيام بدور مؤثر على الساحة العالمية في السنوات الماضية، ربما تجلى في أبهى صوره مع بزوغ أزمة كورونا، وقدرتها الكبيرة ليس فقط على احتواء الوباء في الداخل، ولكن أيضا تقديم يد العون إلى الدول الموبوءة، ومن بينها دول بارزة فيما يسمى بـ"المعسكر الغربى".
اختيار جنيف في ذاته يمثل احياء لواجهة سياسية هامة، لعبت دور الواجهة السياسية لدول "المعسكر الغربى" لعقود طويلة من الزمن، حيث دأبت على استضافة أغلب القمم الدولية، التي حظت برعاية واشنطن، إلا أنها في ربما شهدت قدرا من التجاهل في السنوات الأخيرة، إثر استبدالها بعواصم أخرى، ربما أبرزها العاصمة البولندية وارسو، والتي آثرها ترامب، في محاولة للرهان على دول أوروبا الشرقية، بعد توتر العلاقات مع الدول الرئيسية بالقارة العجوز، وعلى رأسها ألمانيا، من جانب، بالإضافة إلى السعي نحو التضييق على موسكو في محيطها الجغرافى من جانب أخر، بل وحرص على عقد قمته الوحيدة مع بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكى، والمجاورة لروسيا، عام 2018.
وهنا يمكننا القول بأن إحياء دور جنيف كـ"واجهة" لدول المعسكر الغربى، لا يقتصر بأى حال من الأحوال على الرمزية التاريخية لها باعتبارها المدينة التي شهدت توافقا أمريكيا سوفيتيا، تمهيدا للتوقيع على اتفاقية الحد من التسلح النووي، وإنما أيضا يمثل محاولة أمريكية لمغازلة أوروبا الغربية، عبر العودة إليها من جديد بعد سنوات التجاهل خلال حقبة ترامب، بالإضافة إلى كونه محاولة ضمنية لطمأنة موسكو نفسها بأن أمريكا لن تزيد الخناق عليها في مناطقها بأوروبا الشرقية، خاصة وأن التقارب بين واشنطن ودول العمق الاستراتيجي لروسيا كان يمثل قلقا بالغا للحكومة الروسية في سنوات ترامب بالبيت الأبيض.