لا يتطلب الأمر نقاشاً طويلاً، فهناك أربعة نقاط رئيسية تخص الدورة 22 لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، أولها تتعلق بتوقيت انعقاده الذي تحدد وتعطل أكثر من مرة في ظل هلع وقلق العالم كله بسبب فيروس كورونا، التعطل هنا كان كونياَ ويشمل العالم بأكمله؛ فهو توقف كوني، وليس شأناً داخلياً، وباء عاصف طغى على الحياة وأعاد ترتيبها وفق جموحه في الانتشار، وقدرة البشر على المواجهة والاستمرار، من هنا فإنه في مواجهة الصالات شبه المغلقة ومهرجانات السينمائية المؤجلة، ومشاريع التصوير القليلة، وأساليب المشاهدة المستحدثة عبر منصات ومواقع متخصصة مختلفة، كان لابد أن تستعيد الحياة بعضاً من أسلوبها الحيوي، لابد أن تعود الروح للمهرجانات في هذه اللحظة الاستثنائية إلى الواقع، وعدم الاكتفاء بالافتراضي والرقمي فقط، صحيح أن العودة مقيدة بشروط جديدة واجراءات صارمة؛ فرضتها وطأة الفيروس، لكنها ضرورية بشكل يمكن اعتباره كنوع من استمرارية الحياة.
من هذا المنطلق تصبح عودة المهرجانات، وإن كانت عودة ملتزمة بقواعد التغيير الجديدة، أمراً لازماً ليس لاسترداد فضاء وحيز ثقافي واجتماعي فقط، وإنما أيضاً لإدراك طقس من طقوس الحياة؛ إضافة إلى تعويض نسبي عن الخسائر الاقتصادية التي تعرضت لها صناعة السينما، وهي ليست خسارة قسرية للسينما وحدها، لكنها خسارة فادحة على مستويات عدة، كانت المهرجانات أحد أوجهها، وكذلك حجم الإنتاج السينمائي وتنوعه، وهو ما انسحب بدوره إلى معدل مشاركة الأفلام في المهرجانات السينمائية عموماً، وإلى مهرجان الاسماعيلية الذي شاركت فيه إنتاجات موزعة بين سنوات ثلاث: 2019، 2020، 2021.
هناك تقارب في عدد الأفلام المشاركة في الدورة 22 لمهرجان الاسماعيلية؛ نحو 16 فيلماً روائياً قصيراً في المسابقة في مقابل 10 أفلام تسجيلية طويلة و14 فيلماً تسجيلياً قصيراً و15 من أفلام التحريك، هذا غير 14 فيلماً في مسابقة أفلام الطلبة التي ضمت مشاريع التخرج، بجانب البانوراما واحتفالية خاصة بالسينما الروسية، وهذا ما يستوقفنا عند النقطة الثانية، يلخصها السؤال النقدي حول نوعية الأفلام المشاركة وعن الخيط الرفيع الذي يربط بينها، على الرغم من تبايناتها شكلاً ومضموناً على حد سواء، هناك تداخل بين بعض الأفلام؛ حيث يشتبك الروائي بالوثائقي بالتحريك، كل تجربة لها خصوصيتها الجمالية التي تستفيد من مفردات السينما، وهو أمر لا يخص الأفلام المشاركة في المهرجان، بل كاتجاه عام لإنتاج سينمائي ينطلق في سرد قصصي بصري، محمل بانفعالات وتساؤلات رغم تفاوتها السينمائي، ما يعطي مادة غنية بمعطيات بصرية تؤدي للتأمل، وإن يفجر سؤال هذا التداخل الساطع والمثير للجدل، لكن على أية حال هو اختيار سينمائي يهدف إلى تقديم سينما العبر نوعية، يشعر صانعوها بحرية أكبر في مشاريعهم.
الفيلم الوثائقي/ التسجيلي مثلاً ليس تقريراً أو تحقيقاً صحفياً كما سبق وصنعه البعض، بل عمل سينمائي متكامل؛ يرتكز في بنيته على أدواته الجمالية، بلغة سينمائية واضحة وثقافة عميقة وجمالية مؤثّرة، أصبح هناك صناع جدية لهذا النوع، وقد يتداخل فيها الحس الروائي، نرى ذلك على سبيل المثال في "قفص السكر"، الفيلم التسجيلي الطويل والأول للمخرجة السورية زينة القهوجي، حيث قامت بمراقبة وتسجيل الحياة اليومية لوالديها المسنين خلال 8 سنوات من الحرب في سوريا. يسود الفيلم مشاهد من العزلة، والخوف والترقب والتي تقول الكثير عن الحياة في دمشق، لكنها في الوقت نفسه قادرة على تسجيل رابط الحب والحساسية الإنسانية التي تتمسك بها العائلة كملاذ وأداة مقاومة ضد ثقل الوقت والحرب، حاولت زينة القهوجي في فيلمها أن تحكي عن الحرب وتأثيراتها النفسية، دون أن تتعرض للحرب بشكل مباشر، فكان الملمح الإنساني الذي ارتكنت إليه أكثر رسوخاً.
بينما يمسك الوثائقي البرازيلي القصير "كُشك الجنة للصحف والمجلات" إخراج جيوفانا جيوفانيني، بلحظة نفسية مغايرة لبائع الصحف في الكشك البسيط الذي يعاني من التغيرات الاقتصادية، وتكاد حياته تتحول إلى مأساة، ما يجعله في النهاية يعرض الكشك للبيع.
على نفس الصعيد جاءت مشاركة الأفلام الروائية فيها مثابرة لتجارب طموحة، مكثفة، تتوغل في تجارب إنسانية متباينة، يتماس فيها العام مع الخاص، كما في الفيلم السوداني "الست" سيناريو وإخراج وإنتاج سوزانا ميرغني، يحكي عن نساء المجتمع السوداني ووضعهن في ظل التغيرات الاجتماعية، وذلك من خلال حكاية نفيسة ابنة الخمسة عشر عاماً، صبية تعيش في قرية تزرع القطن القطن، يعجبها الشاب بابيكر؛ لكن والديها رتبا لها زواجاً من نادر، رجل أعمال يعيش في الخارج، أما جدتها وهي الآمرة الناهية في القرية، فهي الأخرى رسمت خططًا خاصة لحياة نفيسة، احتوى الفيلم على تفاصيل إنسانية أخاذة ومؤثرة، كما قدم صنيعاً بصرياً لافتاً يدعم قضيته الإنسانية بشكل جدير بالنقاش والمقاربة النقدية.
ثم يأت حضور سينما التحريك ليؤكد التداخل النوعي بين الأفلام، ويثبت تميزاً ما في مشاركته، بدءًا من إشارة الناقد عصام زكريا رئيس المهرجان إليها في كلمته المنشورة بكتالوج المهرجان، ثم براعة الأفلام المشاركة بدرحات متفاوتة، في رأيي هذا الاهتمام الذي أولاه المهرجان لأفلام التحريك، ضروري في إطار أن التحريك أصبح جزءاً أساسياً من صناعة الصورة السينمائية، وأنه يشهد تبدلاً وتطوراً تقنياً وإبداعياً، فلم يعد فيلم التحريك أسير أفكار نمطية ثابتة، بل خرج عن المسار التقليدي كفن يتوجه إلى الصغار، إلى عمل لديه القدرة على جذب الجميع، بما يحتوي من موضوعات جديدة ومتنوعة، وإنتاج حيوي ينقلب على الشكل الكلاسيكي، إنه ما حاولت المخرجة البلغارية رادوستينا نيكوفا تشرحه لي بحماس، بينما تفسر فيلمها "مربى الموالح" المشارك في المسابقة والذي صنعته برسوم متحركة مبتكرة من التطريز اليدوي، إذ قالت أنها اختارت هذا التكنيك لأن أدوات الفيلم من الشغل اليدوي أسرع في توصيل المشاعر، ثم سألتني عن مدى اهتمام المهرجانات العربية عموماً بأفلام التحريك!.
النقطة الثالثة وهي الاحتفاء بنجوم السينما الروائية، الأمر الذي اعتبره البعض، أسلوباً ينفي عن المهرجان صفته وعنوانه كمهرجان للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة، حتى لو كان هذا الاحتفاء خاص بممثلين شاركوا في أفلام روائية قصيرة، ففي رأيي كانت وسيلة استعراضية مبالغ فيها، حتى وإن أعلنت إدارة المهرجان أن الاحتفاء لا يعني التكريم الرسمي، وأن هذا التكريم اقتصر على فنانة التحريك فايزة حسين والناقد الكبير كمال رمزي.
أما مطبوعات المهرجان فهي النقطة الرابعة التي تختصر الحاجة إلى إضافة ثقافية وفنية نوعية، تلعب دوراً في زيادة المعرفة، وتساهم في تفعيل العلاقة المفترضة بين المهرجان وجمهوره، إلى حد ما وفرت عناوين كتب هذه الدورة بعضاً من الحاجة الثقافية، كمدخل إلى مزيد من الوعي، وانعكاس لدور المفروض أن يؤديه المهرجان، ليكون حسب القواعد التي تأسس عليها، إنعكاساً لنبض الإنتاج والإبداع، وللتواصل الثقافي الحقيقي، وللقاء الفني الجاد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة