استشهد الإمام على بن أبى طالب فى سنة 40 هجرية، وكانت سنة صعبة على الجميع، فما الذى يقوله التراث الإسلامى فى ذلك؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن الكثير تحت عنوان "ذكر مقتل أمير المؤمنين على بن أبى طالب.. وما ورد من الأحاديث النبوية من الأخبار بمقتله وكيفيته"
كان أمير المؤمنين رضى الله عنه قد تنغصت عليه الأمور، واضطرب عليه جيشه، وخالفه أهل العراق، ونكلوا عن القيام معه.
واستفحل أمر أهل الشام، وصالوا وجالوا يمينا وشمالا، زاعمين أن الإمرة لمعاوية بمقتضى حكم الحكمين فى خلعهما عليا وتولية عمرو بن العاص معاوية عند خلو الإمرة عن أحد، وقد كان أهل الشام بعد التحكيم يسمون معاوية الأمير.
وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العراق، هذا وأميرهم على بن أبى طالب خير أهل الأرض فى ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله عز وجل، ومع هذا كله خذلوه وتخلوا عنه حتى كره الحياة وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: ما يحبس أشقاها، أى ما ينتظر؟ ماله لا يقتل؟ ثم يقول: والله لتخضبن هذه ويشير إلى لحيته من هذه ويشير إلى هامته.
كما قال البيهقى: عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا أبو الحراب الأحوص بن جواب، ثنا عمار بن زريق، عن الأعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن ثعلبة بن يزيد قال:
قال على: والذى فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه للحيته من رأسه فما يحبس أشقاها؟
فقال عبد الله بن سبع: والله يا أمير المؤمنين لو أن رجلا فعل ذلك لأبدنا عترته.
فقال: أنشدكم بالله أن يقتل بى غير قاتلى.
فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا تستخلف؟
فقال: لا ولكن أترككم كما ترككم رسول الله ﷺ.
قالوا: فما تقول لربك إذا لقيته وقد تركتنا هملا؟.
أقول: اللهم استخلفتنى فيهم ما بدا لك، ثم قبضتنى وتركتك فيهم فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم.
ذكر ابن جرير، وغير واحد من علماء التاريخ والسير وأيام الناس: أن ثلاثة من الخوارج وهم: عبد الرحمن بن عمرو المعروف: بابن ملجم الحميرى ثم الكندي، حليف بنى حنيفة من كندة المصري، وكان أسمر حسن الوجه، أبلح شعره مع شحمة أذنيه، وفى وجهه أثر السجود.
والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمى أيضا - اجتمعوا فتذاكروا قتل على إخوانهم من أهل النهروان فترحموا عليهم.
وقالوا: ماذا نصنع بالبقاء بعدهم؟ كانوا لا يخافون فى الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم فأرحنا منهم البلاد وأخذنا منهم ثأر إخواننا؟
فقال ابن ملجم: أما أنا فأكفيكم على بن أبى طالب.
وقال البرك: وأنا أكفيكم معاوية.
وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص.
فتعاهدوا وتواثقوا أن لا ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم فسمّوها واتعدوا لسبع عشرة من رمضان أن يبيت كل واحد منهم صاحبه فى بلده الذى هو فيه.
فأما ابن ملجم فسار إلى الكوفة فدخلها وكتم أمره حتى عن أصحابه من الخوارج الذين هم بها، فبينما هو جالس فى قوم من بنى الرباب يتذاكرون قتلاهم يوم النهروان إذ أقبلت امرأة منهم يقال: قطام بنت الشجنة.
قد قتل على يوم النهروان أباها وأخاها، وكانت فائقة الجمال مشهورة به، وكانت قد انقطعت فى المسجد الجامع تتعبد فيه.
فلما رآها ابن ملجم سلبت عقله ونسى حاجته التى جاء لها، وخطبها إلى نفسها فاشترطت عليه ثلاثة آلاف درهم وخادما وقينة، وأن يقتل لها على بن أبى طالب.
قال: فهو لك ووالله ما جاء بى إلى هذه البلدة إلا قتل علي، فتزوجها ودخل بها ثم شرعت تحرضه على ذلك وندبت له رجلا من قومها، من تيم الرباب يقال له: وردان، ليكون معه ردءا، واستمال عبد الرحمن بن ملجم رجلا آخر يقال له: شبيب بن نجدة الأشجعى الحرورى قال له ابن ملجم: هل لك فى شرف الدنيا والآخرة؟
فقال: وما ذاك: قال؟ قتل علي.
فقال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئا إذا كيف تقدر عليه؟
قال: أكمن له فى المسجد فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا.
فقال: ويحك لو غير على كان أهون عليّ؟ قد عرفت سابقته فى الإسلام وقرابته من رسول الله ﷺ، فما أجدنى أنشرح صدرا لقتله.
فقال: أما تعلم أنه قتل أهل النهروان؟
فقال: بلى.
قال: فنقتله بمن قتل من إخواننا.
فأجابه إلى ذلك بعد لأى ودخل شهر رمضان فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت.
وقال: هذه الليلة التى واعدت أصحابى فيها أن يثأروا بمعاوية وعمرو بن العاص فجاء هؤلاء الثلاثة - وهم: ابن ملجم، ووردان، وشبيب، وهم مشتملون على سيوفهم فجلسوا مقابل السدة التى يخرج منها علي، فلما خرج جعل ينهض الناس من النوم إلى الصلاة.
ويقول: الصلاة الصلاة فثار إليه شبيب بالسيف فضربه فوقع فى الطاق، فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه فسال دمه على لحيته رضى الله عنه.
ولما ضربه ابن ملجم قال: لا حكم إلا لله ليس لك يا على ولا لأصحابك، وجعل يتلو قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [البقرة: 207] .
ونادى علي: عليكم به، وهرب وردان فأدركه رجل من حضرموت فقتله، وذهب شبيب فنجا بنفسه وفات الناس، وُمسك ابن ملجم وقدم على جعدة بن هبيرة بن أبى وهب فصلى بالناس صلاة الفجر، وحمل على إلى منزله، وحمل إليه عبد الرحمن بن ملجم فأوقف بين يديه وهو مكتوف - قبحه الله - فقال له: أى عدو الله ألم أحسن إليك؟
قال: بلى.
قال: فما حملك على هذا؟
قال: شحذته أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه.
فقال له علي: لا أراك إلا مقتولا به، ولا أراك إلا من شر خلق الله.
ثم قال: إن مت فاقتلوه وإن عشت فأنا أعلم كيف أصنع به.
فقال جندب بن عبد الله: يا أمير المؤمنين إن مت نبايع الحسن؟
فقال: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر.
ولما احتضر على جعل يكثر من قول لا إله إلا الله، لا يتلفظ بغيرها.
وقد قيل: إن آخر ما تكلم به: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَهُ } [الزلزلة: 7] .
وقد أوصى ولديه الحسن والحسين بتقوى الله والصلاة، والزكاة، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عن الجاهل، والتفقه فى الدين، والتثبت فى الأمر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واجتناب الفواحش.
ووصاهما بأخيهما محمد بن الحنفية، ووصاه بما وصاهما به، وأن يعظمهما ولا يقطع أمرا دونهما وكتب ذلك كله فى كتاب وصيته رضى الله عنه وأرضاه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة