غمرت الفرحة الزائدة المفكر والسياسى والمؤرخ المغربى الدكتور عبد الهادى التازى، حين وجد نفسه ضمن وفد رسمى مغربى يستقبل عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، يوم 24 يونيو، مثل هذا اليوم، 1958، بمدينة «طنجة»، فى مستهل زيارته إلى المغرب.
يؤكد «التازى» فى كتابه «طه حسين فى المغرب»، أنه فى هذه الزيارة كان رفيق الدكتور يوميا، وشهدت احتفاء رسميا وشعبيا وثقافيا بعميد الأدب العربى، ولقاء بالعاهل المغربى الملك محمد الخامس الذى منحه «أعلى درجة من وسام الكفاءة الفكرية».
يضع التازى، «15 يونيو 1921 - 2 إبريل 2015»، هذه الزيارة فى سياق تاريخى للنضال المغربى، وتفاعل عميد الأدب العربى معه..يذكر: «كان محظورا علينا أن نتصل بالمشرق إلا عبر القنوات التى تسمح بها السلطات الاستعمارية بالمرور منها، وكذا فإن النشرات الواردة علينا من المشرق كانت تخضع بدورها لرقابة محكمة، وحتى صور قادة المشرق وزعمائه كانت تتعرض للمصادرة بل للعقاب الصارم على امتلاكها وترويجها».
يتذكر «التازى»: «وجدت نفسى ذات يوم بالسجن عام 1937 لأن الشرطة عثرت فى بيتنا على رسوم لسعد زغلول وفريد وجدى وقاسم أمين، سألونى عن علاقتى بهؤلاء فقالوا: هل هم أخوالك أو أعمامك، والحقيقة أننا كنا نتبادل سرا بعض الكتب التى تتسرب إلينا من المشرق من أمثال «حاضر العالم الإسلامى»، ترجمة الأستاذ «عجاج نويهض»، وكتاب «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟» للأمير شكيب أرسلان، ويا ويل من ضبطت عنده ورقة من مثل هذه المخدرات».
يضيف: «ازداد الحصار إحكاما عندما احتدت المعركة بين الوطنيين والاستعمار أواسط الأربعينيات «القرن العشرين»، عندما طالب المغاربة باسترجاع استقلالهم، واشتدت المواجهات أوائل الخمسينيات عندما توالت كتابات المصريين عما يجرى بالمغرب من تجاوزات خطيرة، بلغت حد تهديد العاهل المغربى الملك محمد الخامس بخلعه عن العرش إن هو تمادى فى مناصرة الحركة الوطنية التى تطالب بالاستقلال».
يعلق «التازى»: «كانت مصر لنا بمثابة القبس الذى يهدينا إلى الطريق ونحن نقاوم الاستعمار».. يذكر دور طه حسين فى هذا «القبس» قائلا: «ركب الاستعمار رأسه فأقدم على نفى الملك محمد الخامس يوم 20 أغسطس 1953، وهنا لم يكن من الغريب أن يسمع الناس فى المغرب أن الدكتور طه يُرجع الوسام الفرنسى «لاليجيون دونور» من رتبة «فارس كبير» احتجاجا على ما يجرى فى الجناح الأخير من المغرب العربى».. تذكر «سوزان» زوجة طه حسين فى مذكراتها «معك» ترجمة «بدر الدين عروركى»، مراجعة «محمود أمين العالم»: «عندما طرد سلطان المغرب من بلده حزن طه حسين حزنا عميقا، فقد كانت لديه فكرة رفيعة عن فرنسا، وناضل كثيرا للدفاع عنها فى كثير من المناسبات، كما عمل الكثير لنشر ثقافتها، وبذل كل ما يستطيع للإبقاء على مؤسسات التعليم الفرنسية أثناء الحرب «العالمية الثانية»، ولم يستطع أن يقبل الهجوم على السويس «العدوان الثلاثى 1956»، وأعاد وسام «جوقة الشرف الفرنسية».
يذكر «التازى»، أن طه حسين كتب بعد نفى محمد الخامس، وأسرته إلى «كورسيكا» ثم «مدغشقر»، مقالا بجريدة الجمهورية، 29 ديسمبر 1953، بعنوان حول هوشى مِنه «قائد المقاومة فى فيتنام» ومحمد الخامس، وأردفه بمقال آخر، يوم 6 يناير 1954 حول «محمد بن عرفة» الصنيعة التى نصبها الاستعمار عوضا عن الملك محمد الخامس، وبعد أن ظهرت بوادر النصر فى أعقاب الكفاح المرير الذى خاضه الشعب المغربى من أجل إرجاع مليكه، كتب يقول: «فرض الشعب المراكشى إرادته على فرنسا، فاضطرها اضطرارا إلى أن تعترف باستقلاله وسيادته، وأكرهها إكراها على أن تفاوض السلطان الذى أنزلته عن عرشه منذ عامين، ونفته إلى جزيرة نائية فى أقصى المحيط، وقدرت أنها ستجعله نكالا للثائرين بها والمتمردين عليها، فلم يُغن عنها مكانها الرفيع، وصيتها البعيد وبأسها الشديد، وسلطانها الواسع شيئا، وإنما مضى الشعب المراكشى فى ثورته وأضاف عنفا إلى عنف».
يعلق «التازى»: «ينبغى أن نتصور مدى ابتهاج المغاربة وقد أصبح فى مستطاعهم أن يستقبلوا ضيفا كبيرا هو الدكتور طه حسين».. يؤكد: «غمرتنى فرحة زائدة وأنا أجد نفسى يوم الثلاثاء 24 يونيو 1958 استقبل فيها الزائر الكريم نيابة عن وزارة التربية الوطنية وضمن الوفد المغربى الذى صحبه فى خطواته».
يتذكر: «أذكر جيدا اجتماعنا ببيت الدكتور عبداللطيف بن جلون عامل طنجة الذى خصص استقبالا حميميا لعميد الأدب العربى.. فى هذا الاجتماع عندما كان الدكتور طه فى جلسته الهادئة يستمتع بنسيم البحر تسلل كلب ضخم من نوع «بيرجى» تمتلكه زوجة العامل، ومضى نحو الدكتور طه ودون سابق هرير أخذ يحتك بركبتى الدكتور، ولكن الدكتور بما عهد من ظرف ولطف حوّل المفاجأة إلى تعبير أدبى رفيع، ومثل بقول حسان بن ثابت فى أولاد جفنة: «يغشون حتى ما تهر كلابهم/ لا يسألون عن السواد المقبل».. قالها بصوته الجهورى المعروف وأسلم الحاضرين إلى مجلس أنس جميل».. فى يوم 26 يونيو 1958 كان لقاء الملك محمد الخامس بطه حسين.. فماذا جرى فيه؟