ارتبطت دوائر الدبلوماسية المصرية منذ عقود طويلة بموقعها الجغرافى المتميز، وبالتالى مصالحها مع العديد من المناطق التى تتلامس بشكل مباشر أو غير مباشر معها، على غرار عمقها الأفريقى ومحيطها العربى والشرق أوسطى، بالإضافة إلى البعد المتوسطى، والذى يربط بينها وبين القارة الأوروبية، إلا أن الواقع الجديد ساهم بصورة كبيرة فى توسيع تلك الدوائر، فى المرحلة الراهنة، ليصبح مفهومها أشمل وأوسع نطاقا، ربما بحكم التقارب الكبير فى الأزمات التى باتت تضرب العالم، واختلاف طبيعتها مقارنة بالكوارث العالمية والدولية من قبل، من حيث عدم محدودية نطاقها الزمنى، ناهيك عن تداعياتها الكبيرة، التى يصعب احتوائها سواء من قبل دول العالم المتقدم أو النامى.
ولعل التحدى الكبير الذى واجهته مصر فى السنوات الأخيرة، يتجسد بجلاء، ليس فقط فى حجم الأزمات والتهديدات، وعلى رأسها الإرهاب، أو تفشى فيروس كورونا، أو الأزمات الاقتصادية الكبيرة التى باتت تمثل تهديدا صارخا للعالم بأسره، وهى التى تتطلب تعاملا مباشرا من قبل أجهزة الدولة لحماية الداخل، من آثارها، وإنما أيضا فى قدرتها على التعاطى دبلوماسيا، مع دوائرها سالفة الذكر بنفس القوة والاهتمام، مع توسيع نطاقها، مما يساهم فى تحقيق أكبر قدر من المصالح المصرية، وهو الأمر الذى يمثل فى جوهره تحديا غير مسبوق، فى ظل غياب الأولويات، حيث أصبحت كل المناطق أولوية قصوى، وباتت كافة الدوائر على نفس القدر من الأهمية.
فلو نظرنا إلى سنوات ما قبل 30 يونيو، ربما نجد فترات اعتمدت فيها الحكومات المصرية نهجا عربيا خالصا بينما شهد المحيط القارى تجاهلا تاما، وأخرى كان التوجه أفريقيا، بينما ارتفعت وانخفضت الدائرة المتوسطية خلال تلك الحقب تبعا للأولويات التى وضعتها كل حكومة على عاتقها، إلا أن دولة 30 يونيو سارت على كل المسارات منذ اليوم الأول لها، بل ونجحت فى إحياء ما يمكننا تسميته بـ"النقاط الميتة" فى دوائرها التقليدية، فعادت القاهرة، ليس فقط لتقود محيطها التقليدى الذى رسمته منذ عقود، وإنما امتد دورها لتعيد اكتشاف نفسها فى مناطق أخرى، وتباعدت عنها بحكم الأبعاد المرحلية التى حكمت توجهات الدبلوماسية المصرية لسنوات طويلة.
فلو نظرنا إلى أفريقيا نجد أن ثمة علاقات قوية باتت تجمع القاهرة بمحيطها القارى، فى السنوات السبع الماضية، وذلك بعد سنوات من التجاهل، بينما عادت مصر لتنفرد بقيادة منطقة الشرق الأوسط، من بوابتى القضية الفلسطينية والحرب على الإرهاب، بينما أصبحت العلاقة مع المحيط المتوسطى أكثر قوة بفضل الدور الملهم لمصر، فى العديد من دول الأزمات، والتى كانت سبب إزعاج حقيقى لدول القارة العجوز، بالإضافة لاستلهام حربها على الإرهاب فى العديد من الدول الأوروبية، للقضاء على الخطر الذى بات يداهمهم.
لكن بعيدا عن تلك الدوائر التقليدية نجد أن ثمة نقاط جديدة، خلقتها القاهرة من رحم دوائرها التقليدية، تتجسد على سبيل المثال فى التحالف القوى الذى يجمع مصر مع كلا من اليونان وقبرص، من رحم البعد المتوسطى، والذى اقتصر فى الماضى على دول أوروبا الرئيسية، على غرار فرنسا، والتى شاركت مصر فى بناء كيان الاتحاد من أجل المتوسط، فى عام 2008، وما نجم عن ذلك من مكاسب كبيرة لهم، لا تقتصر فى نطاقها على المجال السياسى، إنما أيضا مزايا اقتصادية كبيرة، بينما امتدت العلاقات مع إفريقيا لتتجاوز الاهتمام بدول حوض النيل فقط، ليمتد إلى أعماق القارة السمراء.
وهنا تتجلى عبقرية الدبلوماسية المصرية، عبر عدم التركيز فقط على العودة إلى محيطها التقليدي، وإنما توسيعه عبر خلق أبعاد جديدة لدوائرها، لتصبح مصر قوى دبلوماسية، لا تسعى فقط لحماية مصالحها اللحظية الراهنة، وإنما أيضا لصياغة مستقبل مختلف مناطقها، لحماية مستقبلها.