كانت الساعة التاسعة والثلث صباحا، يوم الأربعاء 9 يونيو، مثل هذا اليوم، من عام 1948، حينما قصد الملازم أول كمال الدين عرفة، وجنديان أحدهما مسلح إلى سجن مصر، وتسلموا المتهم حسين توفيق أحمد، المتهم الأول فى قضية اغتيال أمين عثمان باشا، وزير المالية فى حكومة الوفد «4 فبراير 1942 - 8 أكتوبر 1944» ليصطحبوه إلى عيادة الدكتور جورج بطرس، حيث كان يتردد عليها فى الأيام الأخيرة لعلاجه، حسبما يذكر الكاتب الصحفى، لطفى عثمان، فى كتابه «المحاكمة الكبرى فى قضية الاغتيالات السياسيية»، مضيفا، أنه فى تمام الساعة الأولى بعد ظهر ذلك اليوم، خرج الضابطان والجنديان و«توفيق» من عيادة الدكتور جورج، وفى الساعة الخامسة تلقت الحكمدارية ووزارة الداخلية أول بلاغ عن هرب «توفيق».
كانت قصة الهرب «أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، بوصف لطفى عثمان، وقررت وزارة الداخلية منح مكافأة قدرها خمسة آلاف جنيه لكل من يضبط «الهارب»، وكان شابا ممتلئ الحيوية، وينتمى إلى الطبقات العليا فى المجتمع، فهو نجل توفيق أحمد باشا، وكيل وزارة المواصلات، وبحسب محمد إبراهيم كامل، المتهم معه وابن خالته، وزير خارجية مصر عام 1978، المستقيل احتجاجا على توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل: «وقع الحادث مساء 6 يناير 1946، وكان عثمان معروفا بصلته الوثيقة والمريبة بالإنجليز، وكان كثيرا ما يدلى بخطب وتصريحات تمثل استفزازا صارخا لمشاعر المصريين، ومنها خطبته الشهيرة التى قال فيها إن إنجلترا متزوجة بمصر زواجا كاثوليكيا لا طلاق فيه».
يذكر «كامل» فى مذكراته «السلام الضائع»، أن «توفيق هرب بعد إطلاقه النار، وتدخلت الصدفة البحتة فى القبض عليه، فوالده كان مشهورا بالشدة والصرامة، وحدث أن طرد أحد موظفى وزارته لسوء سلوكه، وكان هذا الموظف يعرف حسين، بصفته ابن رئيسه، ويعرف عداءه وكراهيته للإنجليز، وشاءت الظروف أن يلتقيه قبل الحادث واقفا أمام مقر الرابطة المصرية الإنجليزية»، حيث كان يدرس العملية، فحياه هذا الموظف ثم انصرف بعدها، ولما وقع الحادث توجه الموظف إلى البوليس وأبلغ عن حسين، على سبيل التخمين، لكنه أصبح حقيقة حين ذهب البوليس إلى فيلا العائلة فى ضاحية هليوبوليس منتصف ليلة الحادث، فعثر على أسلحة مخبأة، ومفكرة تحتوى على عبارات عدائية ضد الإنجليز وأعوانهم، فاصطحبوا حسين، وبعد تحقيق طويل اعترف بقتل عثمان، وكشف عن أسماء أخرى بينهم كامل وأنور السادات».
تواصلت محاكمة المتهمين وكانت أولى الجلسات أمام محكمة الجنايات يوم 12 فبراير 1947، غير أن المفاجأة جاءت فى عملية الهرب، ويشرحها لطفى عثمان من واقع اعترافات الضابط، قائلا، أنه عقب خروج الضابط مع حسين والجنديين، كانت سيارة والد المتهم تنتظرهم، وتوسل إليه حسين أن يسمح له بتناول الغذاء مع أسرته، فقبل الضابط، وركب معه السيارة، وصحبهما الجنديان، ولما وصلوا إلى المنزل استقبلت والدة حسين ابنها بالترحاب، وكانت معها السيدة سميرة عزمى، ابنة شقيقة توفيق أحمد باشا، ثم جلس الجميع فى حجرة المكتب بينما بقى الجنديان فى الحديقة، ثم ما لبثت السيدة سميرة أن دعتهما إلى داخل المنزل، على حد رواية الضابط، وكان توفيق باشا غائبا، وفى أثناء جلوسهم فى حجرة المكتب عرضت والدة حسين على الضابط أن يتفرج على صورة ابنها لما كان صغيرا، وفى هذه اللحظة بالذات دق جرس التليفون، فخرجت السيدة سميرة تجيب النداء».
أستأذن حسين من الضابط ليدخل دورة المياه، فأذن له، وفتح حسين بابا صغيرا على أنه باب دورة المياه، ومضت برهة، وبدأ الشك يساور الضابط، ثم فتح هذا الباب فوجده يفضى إلى فرندة، وعندئذ أدرك الضابط الخدعة، فراح يطوف بالبيت بحثا عن المتهم دون جدوى، ثم أخرج مسدسه وصوبه نحو رأسه وصاح: «إن لم تحضروا حسين فسأطلق الرصاص وأنتحر»، فسارعت والدة حسين بالاتصال بزوجها للحضور على عجل، ولما حضر، أقنع الضابط بأن يقول إن الهرب تم من العيادة وليس من البيت، وخرج الضابط ليبلغ الجهات المختصة، لكن توفيق باشا، اتصل بوكيل وزارة الداخلية وأبلغهم الحقيقة كاملة.
أصدر النائب العام أمرا باعتقال الضابط والجنديين، واختفى «حسين» تماما، وقررت وزارة الداخلية منح خمسة آلاف جنيه مكافأة لمن يضبطه ويسلمه للسلطات المختصة، وترقب الجميع أى أخبار جديدة عن المتهم الهارب حتى كانت المفاجأة يوم 11 يونيو 1948.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة