الكتاب الذى يشغلك بعدما تنتهى من قراءته، حتى أنه يجعلك تفكر فى خياله ولغته وأسلوبه وجمله وكلماته ورؤيته وجمال فكرته، هو كتاب مهم فعلا، فما بالك بكتاب يعجبك لدرجة أنك تتمنى لو كنت كاتبه، إننى، هنا، أتحدث عن "البشر والسحالى" للكاتب المتميز حسن عبد الموجود، والصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، برسوم عمرو الكفراوى.
الذين عاشوا فى صعيد مصر فى ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، أو قبل ذلك بالتأكيد، سيدركون كيف جاءت فكرة الكتاب إلى ذهن حسن عبد الموجود، ففى ذلك الزمن كان الحيوان والإنسان متقاربين فعلا، ولم تكن هناك نظرة السيد والخادم، ولا نظرة المالك والمملوك، بل كان نوعا من "وحدة الوجود" فى بيئة محملة بالأساطير، ومن هذه الروح انطلق الكتاب القصصي، والذى يقول لك لسنا فى حاجة كى ينطق الحيوان أو يأتى بسلوك "خيالى" كى يستحق أن يكون موضوعا لنص أدبى أو فكرى، بل إن واقعه يكفى للتعبير عن حاله وحالنا، ويكفى لكتابة جميلة عن واقع يراه البعض سحريًا وغرائبيا.
الحيوان فى كتاب "البشر والسحالى" شاهد على قوتنا وضعفنا، على أحلامنا المتكسرة وعلى أمانينا التى لا تفارق غرفنا المظلمة، سنقرأ عن حب مكتوب عليه الفشل بسبب خنازير القصر ودلالتها، وعن السحالى بكل تراثها الذى يحمله الكبار والصغار، حيث إنها تحمل مفتاح الجنة فى بطنها وتفسد الخبز الشمسى بأقدامها، هنا رجل يفقد ذاكرته فيصبح بالنسبة للأطفال والكلاب مثل "طُعم حى وجد نفسه معلقا فى صنارة والوحوش ذات الزعانف تمرح حوله".
فى الكتاب أعاد حسن عبد الموجود صياغة أسطورة الطفل التوأم الذى يتحول ليلا إلى قط، ويعود بالنهار ليحكى عما رآه ليلا، فيكشف الأسرار ويمنح الناس الضحك وأحيانا البكاء، كما يحضر العجائز بحكمتهم التى يودعونها لنا قبل الرحيل، ويحضر العلم والخرافة متجاوران فلا تعرف من المصيب ومن المخطئ، وتحضر الذكريات بكل قسوتها وجمالها أيضا، ويحضر الزمن - ذلك القاسى - الذى لا يترك شيئا على حاله يتجسد كارثيا فى واحدة من أجمل قصص الكتاب "العقرب.. سحابة قريبة ومطر أصفر"، حيث يتحرك كل شىء نحو النهاية "كبر أبى، وكبرت، وكبر أخي، وشاخ العالم" نعم، رغم إعجابى الشديد بكل قصص الكتاب، لكن هذه كانت قصتى الأجمل، أعدت قراءتها بقلب مرتجف، رأيتها اختصارا لحياتنا، ولحياة العالم كله، حياة صعبة محاطة بفزع الاستيقاظ بملابس مبللة، حيث لا يخفف قسوة الوجود سوى شغف قديم بصيد العقارب بشوك النخيل، فى استعراض حقيقى عن الخوف والفرح معا.
كما قدم الكتاب تنويعات متعددة على حيوانات كثيرة وأناس مختلفين فظهر الديك الرومى والرجل الحالم بالترقية فى عمله، والحمار الراغب فى إلقاء من يمتطيه فى المصرف، والطفل الذى يتملكه إحساس بأنه كان ذات يوم حمارا ركبه المسيح، كما ركبه باخوس، كما يجعلنا الكتاب القصصى نلتقى بـ"جمعة" الذى يشبهه أخوه بالتيس، وعلاقتهما بالحيوانات التى يذبحونها، قبل أن يقدم حسن عبد الموجود كتابة جميلة عن "أبو دقيق" الفراشة التى طاردناها صغارا فى حقول البرسيم، وكان حلمنا أن نضعها فى "صوامعنا" كى يزيد الدقيق فيزيد الخبز، وهنا قدم حسن نصا بديعا عن اللون الأبيض وتراثه فى صعيد مصر.
"البشر والسحالى" ليس مثل الكتب التراثية التى يتحدث فيها الحيوان أو يأتى بأفعال رمزية دالة على ما يعجز الكاتب أن يصرح به، أبدا، إنها عن الإنسان بهمومه والحيوان بشجونه، كلٌ فى موضعه، لكنهما معا يكملان الحياة التى نعيشها والأمانى التى لم تتحقق.