"كش ملك".. هكذا أطلقت روسيا على مقاتلة جديدة أنتجتها مؤخرا، تتمتع بمزايا خاصة، في إطار حالة من التنافس الدولى، باتت الصناعات العسكرية جزءً لا يتجزأ منه، لأسباب تتعلق بأهميتها الاقتصادية، ناهيك عن ارتباطها بنظريات النفوذ الدولية، في ظل حقيقة مفادها أن قوة الدولة لم تعد قاصرة على امتلاكها السلاح، وإنما أيضا السيطرة على السوق العسكرى العالمى ، وبالتالي مزاحمة القوى الأمريكية التي هيمنت على هذا القطاع لعقود طويلة من الزمن، وتحديدا منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى، حيث سيطرت فيها واشنطن على مقاليد العالم بمفردها حتى أنها يمكنها أن تغلق الأبواب أمام المارقين، في الوقت الذى تغدق فيه بأسلحتها على الحلفاء، على اعتبار أنهم يمكنهم أن يكونوا أدوات لتحقيق أهدافها في العديد من مناطق العالم.
إلا أن الصناعات العسكرية ربما شهدت رواجا كبيرا في السنوات الماضية، مع نجاح روسيا في العودة القوية إلى المشهد الدولى، بالإضافة إلى نجاح دول أخرى تطوير هذا القطاع لديها، ناهيك عن تحول عدد لا بأس به من حلفاء واشنطن إلى منافسين، في أعقاب التضييق الاقتصادى الأمريكى عليهم، خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، مما دفعهم للبحث عن أسواق لصناعتهم العسكرية، بهدف تحقيق مكاسب، على رأسهم دولا من أوروبا الغربية، حيث كان انتاجهم محصورا على دول بعينها، في إطار التنسيق مع الولايات المتحدة، والتي كانت تسيطر على سوق تلك الصناعة تماما، ليس فقط من خلال سيطرتها على حركة البيع الصادرة منها، ولكن أيضا في الدول الحليفة، والتي تمتلك إمكانات كبيرة في الصناعات العسكرية.
وهنا شهدت الصناعات العسكرية تنوعا، لا تقتصر تداعياته على أبعاده الاقتصادية، وإنما يحمل في طياته تبعات أخرى، ترتبط بالنفوذ الدولى الذى تحظى به الدول المتفوقة في هذا القطاع الحساس، وهو ما يمثل جزءً مهما من تغيير المشهد الدولى برمته، والذى يتجه نحو التعددية، في ظل حقيقة لا يمكن إنكارها، وهى أن العالم يشهد الآن قوى دولية فاعلة يمكنها التعاطى والتأثير بفاعلية مع المسرح العالمى، وما يعتريه من تحديات وأزمات وصراعات، وهو ما يفسر بجلاء الصعود الكبير للصين، والوجود الكبير لروسيا، في مناطق كانت بالأمس القريب، مناطق حصرية للولايات المتحدة، سواء في الشرق الأوسط، أو أوروبا الغربية، بينما تتحرك واشنطن من جانبها، إلى اختراق مناطق جديدة، تمثل عمقا استراتيجيا لمنافسيها.
وبالتالي تحولت الساحة الدولية، إلى ما يشبة "رقعة الشطرنج"، يبدو أن موسكو استلهمتها، عند تسمية مقاتلتها الجديدة، خاصة بعد نجاحات حققتها، سواء دبلوماسيا أو عسكريا أو اقتصاديا، في اختراق مناطق النفوذ الأمريكي، في أوروبا، عبر التقارب الملحوظ مع ألمانيا وفرنسا، وهما حلفاء أمريكا الرئيسيين في أوروبا الغربية، بالإضافة إلى وجودها في الشرق الأوسط عبر البوابة السورية، في الوقت الذى تحركت فيه واشنطن من تحويل رهانها إلى مناطق أخرى، كأوروبا الشرقية، والتي تمثل عمقا استراتيجيا لموسكو، والتحول نحو منطقة المحيط الهادئ، لمزاحمة الصين.
"كش ملك" ربما يكون اسم أطلقته روسيا على مقاتلتها الجديدة، ولكنه في واقع الأمر "رسالة" هامة لخصومها الدوليين، تهدف إلى إبراز قدرتها، ليس فقط فيما يتعلق بالصناعات العسكرية، والتي تمثل أحد المجالات التي تتفوق فيها موسكو منذ زمن سحيق، ولكن ترتبط بحالة الصراع على النفوذ بين الأقطاب الدولية، والذى تجاوز الكرة الأرضية، ليصل إلى الفضاء، في انعكاس صريح لطبيعة المشهد الدولى الجديد، والذى سوف يتسع نطاق الصراع به في المرحلة المقبلة متجاوزا الحدود المقبولة للصراعات الدولية التقليدية.