ترفع جماعة الإخوان شعار «الموت لأمريكا» علنا، لكنها ترتمى فى أحضانها سرا، وإذا كان هناك العديد من الوقائع فى السنوات الأخيرة تؤكد على هذا المسار، فإنه فى أوائل الخمسينيات من القرن الماضى كانت الاتصالات بينهما تتم على قدم وساق، وكانت الفترة التالية لثورة 23 يوليو 1952 أكثرها إثارة، حيث قدمت «الجماعة» نفسها كقوة بديلة لحكومة الثورة، وسعت فى ذلك إلى كسب الرضا الأمريكى، والبريطانى، فبينما كانت تكثف اتصالاتها السرية مع أمريكا، كانت تجرى أيضا نفس اللقاءات مع بريطانيا عبر سفارتها فى القاهرة، وذلك فى وقت كانت الثورة تخوض فيه معركتها السياسية والفدائية فى القناة لإجلاء قوات الاحتلال البريطانى عن مصر، ويذكر اللواء فؤاد علام بالوثائق قصة هذه اللقاءات، وما جرى فيها فى مذكراته «الإخوان وأنا».
جرت الاتصالات أكثر من مرة بين «الجماعة» ومسؤولين فى السفارة الأمريكية بالقاهرة بعد ثورة 23 يوليو 1952 بشهور قليلة، ويذكر «علام» وقائعها، ففى 27 مايو 1953 رفع المستر «بورديت» تقريرا عن لقاء تم بينه وبين المستر «جيرنجان» كممثلين عن الجانب الأمريكى مع «محمود خلف» عضو جماعة الإخوان وشقيقه متزوج من ابنة حسن الهضيبى مرشد الجماعة وقتئذ، وفى 21 يونيو 1953 رفع السفير «جيفرسون كافرى» تقريرا عن اجتماع تم فى هذا اليوم بين المسؤول المكلف من السفارة الأمريكية، وبين حسن الهضيبى ومعه أحد معاونيه المقربين وهو سعيد رمضان «زوج ابنة حسن البنا».
فى 12 يوليو 1953 رفع «جيفرسون كافرى» تقريرا إلى حكومته فى واشنطن عن اجتماع تم عقده مع عضو من الجماعة لم يذكر اسمه، لكنه وصفه بأنه ابن أحد مشايخ الأزهر، وأنه على علاقة باثنين من ضباط مجلس قيادة ثورة 23 يوليو.
أما فى يوم 27 يوليو، مثل هذا اليوم، عام 1953، فجرى عقد اجتماع حضره حسن الهضيبى مرشد الجماعة، ومعه محمود خلف، وكان يمثل الجانب الأمريكى المستر «إلتنج» السكرتير السياسى للسفارة الأمريكية بالقاهرة، واستمر الاجتماع لمدة ثلاث ساعات، تناول فيه كل القضايا المطروحة من جانب حكومة الثورة سواء فى العمل الفدائى فى القناة، أو فى مفاوضات الجلاء، أو فى تشكيل الحكومة والعلاقة مع الأحزاب وغيرها.
وطبقا للوثائق الرسمية التى يأتى بها «علام» فى كتابه، فإن الهضيبى قال: إن الاخوان يعلمون أن النظام حسن النية ولكن الجماعة لا تعترف بطريقتهم فى وضع برامجهم موضع التنفيذ، وأنهم كإخوان ضد الملكية ويسرهم رؤية إزالتها، وأن نظاما جمهوريا أصلح من الناحية الإسلامية، وأنهم يرغبون فى إزاحة بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة من مناصبهم «يعنى عبدالناصر ولكن لم يذكر اسمه»، وأضاف الهضيبى، أنهم يفكرون فى اعتزال العسكريين الحكومة وإحلال مجموعة مختارة من الأحزاب محلهم، وعلى المعارضة أن تنسق جهودها للتعامل بالقوة مع الظروف إذا ما سقط النظام، وقال: إن حكومة الثورة سوف تسقط فى وقت قريب بسبب سياستهم، لأنهم بنوا أحلاما كبيرة لم يمكن تحقيقها ومن بينها إخراج الإنجليز من قناة السويس وإصلاح الأوضاع الاقتصادية للبلاد.. وقال إن الإخوان لم توافق على مظاهرة تأييد الثورة فى أيامها الأولى، وأضاف أن الفلاحين كان لديهم أمل عندما بدأ النظام، ولكن هذا الأمل تلاشى والآن أصبح فى خبر كان.
زعم «الهضيبى» أن مجلس قيادة الثورة ارتكب خطأ فاحشا بتبنيه رسميا العمليات العسكرية ضد الإنجليز، فقد كان من واجبهم أن يتركوا آخرين يفعلون ذلك، وأن يحجبوا تصريحاتهم الرسمية، وأضاف أنه كان يرى الاكتفاء بالعمل الفدائى بعيدا عن الرسميات حتى لا تجعلهم فى فوهة المدفع، وقال إن الشيوعية فى مصر تلقى رواجا متزايدا فى الجامعات، ولكن جماعة الإخوان أخذت فى مجابهة هذا التيار، وأن نشاط الإخوان فى نشر الأخلاق الحميدة هو أحسن وسيلة لوقف انتشار الشيوعية.
وقال الهضيبى، إنهم يريدون أن تصبح مصر دولة إسلامية، وأن هذا يتعارض مع وضع لجنة الدستور، وقرر بأن الإخوان لن يدخلوا فى العمل السياسى إلا إذا تحققوا من النصر، وأنه ليست هناك احتمالات للهزيمة لهم كما حدث من قبل، وعن الأوضاع السياسية للمرأة قرر الهضيبى بأنهم مختلفون مع النظام فى هذه الزاوية، وأنهم أصدروا كتيبا شرحوا فيه وجهة نظرهم حول هذه القضية، وقام الهضيبى بتسليم المندوب الأمريكى نسخة من هذا الكتاب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة