احتلت مصر على مدى التاريخ مكانة عظيمة حضاريا وإنسانيا، وجاء جزء كبير من مكانتها على مستوى الوطن العربى من قدرتها الكبيرة على التواصل، هذا التواصل الذى عرف أشكالا مختلفة، منها التعليم فى الأزهر الشريف والجامعات المصرية والسينما وكذلك الإذاعة، والتى من أهمها إذاعة صوت العرب التى انطلق أثيرها فى شهر يوليو من سنة 1953.
لم تنشأ الإذاعة من فراغ بل كانت البداية من برنامج يحمل اسم صوت العرب يذاع على إذاعة القاهرة، لكنه أصبح بعد ذلك إذاعة مستقلة، صارت هذه الإذاعة فى وقت ما الأشهر والأبرز فى التواصل بين الشعوب العربية، ويقال فى ذلك إن المواطن العربى فى كل مكان كان عندما يذهب لشراء راديو، يسأل بتلقائية: هل به إذاعة صوت العرب؟.. ومما يذكر فى ذلك أيضا أن الاحتلال الفرنسى استشعر بخطورة هذه الإذاعة وكان يوزع «راديو» على الناس فى الجزائر لا يلتقط إذاعة صوت العرب.
وتعرض مساء اليوم الخميس؛ شبكة قنوات DMC وثائقى بعنوان «صوت العرب» من إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية؛ يرصد شهادات من داخل وخارج مصر لتوثيق كيف كانت الإذاعة العريقة «صوت العرب» وكيف كانت صوتا للوطن وثورته قبل ما يقرب من 70 عاما، وكيف كانت رقما صعبا فى معادلة إقليم يتحرر بخمسينيات وستينيات القرن العشرين.
معارك فاصلة
كانت إذاعة صوت العرب موجهة لمحاربة الاستعمار فى كل البلدان العربية، وخاضت العديد من المعارك، كانت أولاها بعد مضى حوالى شهر ونصف الشهر على إرسالها، وذلك بوقوفها مع الحق فى معركة سلطان المغرب «محمد الخامس» عندما نفته الحكومة الفرنسية خارج المغرب، فشنت «صوت العرب» حملة إعلامية كبرى وسعت إلى رفع الحماية الفرنسية عن المغرب وعودة الملك محمد الخامس.
نشأة الإذاعة.. وجمال عبدالناصر يدعمها
عقب ثورة 1952 لم يكن هناك بد من تخصيص خدمة إذاعية تصل واضحة إلى الدول العربية، وبالفعل بدأت إذاعة صوت العرب، حسبما يذكر كتاب «صوت العرب.. الإذاعة التى قوضت أركان الاستعمار» للإعلامى عباس متولى، وقد كان الزعيم جمال عبدالناصر يدعمها ومما قاله بعد سنة على إنشائها «أطلقت مصر صوت العرب من القاهرة قلب العروبة النابض حربا على المستعمرين، ليعلن للعالم أجمع أن العرب قد عرفوا أنفسهم وأدركوا ذواتهم واستظهروا قوتهم أمة واحدة لا تفصلها الحدود، ولا تمزقها الشهوات، ولا يقف بينها وبين الحرية تآمر الاستعمار، ولم يمض على صوتكم الحر صوت العرب عام واحد إلا والعرب جميعا ملتفون حوله، فقد صدر من مصر العربية واثقين من عروبته، فالعروبة شعار أسمى يؤمنون به، فهو من العرب وبالعرب وإلى العرب، وكان طبيعيا وصوت العرب يسعى إلى وحدة العرب الأحرار أن تتألب عليه قوى المستعمرين الغادرين تريد أن تخنقه ولكن صوت العرب بقى – بعون الله – صوتا حرا لأنه صوت الحق العربى»، وعلى الرغم من كون أول رئيس لإذاعة صوت العرب هو الشاعر الكبير صالح جودت، فإن بدايتها الحقيقية كان فى ارتباطها باسم أحمد سعيد، الذى كان مذيعا رئيسيا منذ انطلاق برنامج صوت العرب عبر إذاعة القاهرة وعمل مديرا لإذاعة صوت العرب عند تأسيسها واستمر نجمها الأشهر حتى سنة 1967.
الإذاعة تنطلق من دمشق
كانت المعركة الأشهر فى تاريخ إذاعة صوت العرب هى معركة العدوان الثلاثى على مصر، فبعد أن دمر العدوان محطات إرسال أبو زعبل فى سنة 1956 لم يتوقف إرسال صوت العرب، بل أذهل الجميع بأن انطلق نداء صوت العرب مرة أخرى من دمشق بصوت المذيع صلاح عويس، وفى اليوم نفسه انطلق النداء من تونس، ثم من عمان، ومن بيروت ومن طرابلس الغرب، وذلك فى معزوفة رائعة عكست وحدة الأمة العربية الحقيقية.
الثورة الجزائرية
من نجاحات الإذاعة أيضا تبنيها الكبير للقضية الجزائرية من أول يوم فى نوفمبر من عام 1954 حتى استقلالها سنة 1962، ومما يحفظه التاريخ جيدا لإذاعة صوت العرب أنه مع اقتراب الساعة من العاشرة مساء يوم أول نوفمبر من عام 1954 أخرج أحمد سعيد من أحد أدراج مكتبه فى الطابق الخامس من مبنى الإذاعة بشارع الشريفين بوسط القاهرة ورقة كانت مخبأة بعناية، بها نص بيان إعلان ثورة تحرير الجزائر وبدأ يلقيه «بسم الله الرحمن الرحيم.. نداء إلى الشعب الجزائرى .. أيها الشعب الجزائرى .. أيها المناضلون من أجل القضية الوطنية...» وبدأت المعركة الأبرز فى أرض الجزائر والتى كانت نهايتها النصر المبين.
إذاعة طورت من نفسها واكتشفت النجوم
لقد نجحت «صوت العرب» منذ بدايتها، لذا امتد إرسالها من نصف ساعة فى يوليو 1953 إلى ساعتين يوميا فى يناير 1954 حتى أصبح 7 ساعات فى يوليو من نفس العام ثم 21 ساعة ونصف عام 1990، وثم 24 ساعة يوميا أثناء محنة احتلال الكويت، وعلى المستوى الفنى، فحسبما يذكر «عباس متولى» لا ننسى مثلا أن صوت العرب أول من قدمت البرامج القصيرة جدا «برنامج الدقيقة الواحدة» وقدمت المقدمات الغنائية للدراما الإذاعية، وهى أول من حاور المستمع حوارا سياسيا جادا فى برامج مثل «حوار مع مستمع» وأول من أقامت أفراحا لشباب الوطن وأول من قدمت بثا مباشرا يجمع بين أبناء الوطن العربى مشرقه ومغربه على الهواء مباشرة، وأول من قدم أبطال العرب وتراث العرب فى مسلسلاته العديدة، وأول من اكتشف نجوما عربا فى مختلف ألوان الفن والأدب وأول من قدم البرامج الحوارية الحية بمشاركة جمهور مثل «من غير مونتاج»، وكانت صوت العرب أول من أوفد مراسلين للخارج نقلوا معارك الثوار فى شمال أفريقيا والخليج من أشهرهم أمين بسيونى وصلاح عويش، كما كان لها باع كبير فى إنتاج الأغنيات مثل «بلدى أحببتك يا بلدى، والنشيد القومى للجزائر»، كما قدمت مسلسلات إذاعية شهيرة منها «فى بيتنا رجل».
قلب العروبة النابض
كان شعار الإذاعة التى ولدت كبيرة أنشودة «أمجاد يا عرب أمجاد» التى كتبها عبدالفتاح مصطفى ولحنها أحمد صدقى وغناها كارم محمود ومنها «أمجاد يا عرب أمجاد.. فى بلادنا كرام أسياد» بينما كانت الافتتاحية بصوت القدير حسنى الحديدى وفيها «هذا صوت العرب.. الناطق بلسانكم.. المعبر عن وحدتكم.. يأتيكم من قلب العروبة النابض.. من القاهرة»، كما كانت صوت العرب تسعى بكل طاقة للتميز لذا استقطبت فى البداية كفاءات منهم فاروق خورشيد وبهاء طاهر والشاعر هارون هاشم الرشيد والسيد الغضبان»..
صوت العرب
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة