علاقة تبدو شائكة جمعت بين موسكو، سواء في صورتها "السوفيتية"، أو في مرحلة ما بعد التفكك، من جانب، ونساء السلطة في أوروبا، وخاصة أولئك اللاتي استحوذن على لقب "المرأة الحديدية" من جانب أخر، وهو ما يتجلى في التباين الكبير، الذى شهدته علاقة الاتحاد السوفيتى، مع رئيسة وزراء بريطانيا التاريخية مارجريت تاتشر، والتي تولت منصبها في السبعينات من القرن الماضى، مع اقتراب نهاية الحرب الباردة، أو بعد ذلك مع بزوغ نجم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، حيث شهدت العلاقة الروسية معهما محطات تبدو متعارضة إلى حد كبير، بل ولعبت دورا كبيرا سواء في قصة صعودهما أو هبوطهما، في ظل التطورات السريعة التي طرأت على المشهد الدولى، في كل حالة، وحالة المخاض التي ارتبطت بهما، جراء تغير الأنظمة الدولية، والتوجه العالمى نحو إرساء قيادة جديدة للعالم.
فلو نظرنا إلى حقبة تاتشر، نجد أنها ارتبطت باقتراب نهاية الحرب الباردة، حيث كان العالم يستعد للتحول نحو نظام دولى أحادى القطب تقوده الولايات المتحدة بمفردها، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى، بينما جاءت ميركل لتجنى ثمار هذا التحول، لتكون بمثابة الوريث الشرعى للقب تاتشر (المرأة الحديدية)، عبر الاعتماد الأمريكي عليها لتكون بمثابة القائد الفعلى للاتحاد الأوروبى، طيلة السنوات الماضية، بينما ترفع لواء العداء لموسكو، ليشهد هذا المنحى تغييرا كبيرا فيما بعد، مع تغييرات كبيرة باتت تطرأ على البيئة الدولية في السنوات الأخيرة، والصعود الكبير لقوى دولية جديدة، أصبح يمكنها مزاحمة واشنطن على عرش النظام الدولى، ناهيك عن التوتر الكبير في العلاقات الأمريكية الأوروبية، لتغير بوصلة أوروبا بأكملها، وفى القلب منها ميركل.
ولعل الملفت للانتباه أن التقارب الكبير بين ميركل وتاتشر، من حيث العلاقة مع روسيا يبدو واضحا إلى حد كبير، حيث كانت شعارات استعداء موسكو، تهيمن إلى حد كبير على خطاباتهما، سواء الانتخابية أو التي استهلا بها حقبتيهما، بينما تحول الموقف بعد ذلك بسنوات مع التغير الكبير في الظروف الدولية، بناءً محددات التنافس الأوروبى، والمساعى الكبيرة نحو قيادة القارة العجوز، بالإضافة إلى الرغبة الكبيرة لدى مختلف القوى الأوروبية للفوز بثقة واشنطن، للاعتماد عليها سواء على المستوى القارى، أو فيما هو أبعد من ذلك عبر القيام بدور أوسع على المستوى الدولى.
التغيير الكبير في مواقف تاتشر تجاه الاتحاد السوفيتى يمكن ملاحظته بمتابعة النهج الذى تبنته، فكان الهجوم على الكيان "الشيوعى" مدخلها للفوز بمقعد رئيسة الوزراء في لندن، بينما كانت هي نفسها من تحاول الوساطة بين موسكو وواشنطن، بعد ذلك بسنوات، مع اعتدال "اللهجة" السوفيتية، في عهد ميخائيل جورباتشوف، إلى الحد الذى سعت فيه نحو اللجوء إليه صراحة للتدخل ومنع سقوط حائط برلين، في عام 1989، على اعتبار أنه هذه الخطوة ستكون بمثابة "بداية النهاية" للقيادة البريطانية لأوروبا، لصالح ألمانيا الموحدة.
ومع اعتدال الموقف البريطاني من موسكو، كانت برلين على الموعد لتصعد إلى العرش القارى من نفس البوابة عبر "استعداء" روسيا، لتصبح ألمانيا بالفعل هي قائد أوروبا الفعلى، مع تدشين الاتحاد الأوروبى بصورته الحالية، وهو الأمر الذى وصل إلى الذروة في سنوات ميركل والتى بدأت في 2005، إلا أن الأمر تغير تدريجيا، تزامنا مع صعود ترامب إلى البيت الأبيض، وتوتر العلاقة مع واشنطن، ومساعى الحكومة الألمانية للتعاون مع روسيا، فيما يتعلق بمجال الطاقة، ليحل الدور على لندن من جديد للسعى نحو خلق الصدام مع روسيا من جديد بحثا عن دور القيادة المفقود، خاصة مع اقتراب نهاية حقبة ميركل، وهو ما بدا في قضايا عديدة، بدءً من قضية تسميم العميل الروسى المزدوج سيرجى سكريبال، ابنته يوليا، والتى جاءت هي الأخرى في عهد امرأة أخرى وهى رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماى، وحتى قضية المدمرة البريطانية التي رست على سواحل جورجيا في استفزاز صريح للجانب الروسى.
المحاولات البريطانية تحمل مساعى العودة ربما جاءت في عهد رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، ليكسر "متلازمة" الجنس، إلا أنه يمثل تكرارا للسياسة ذاتها التي أرستها "نساء" السلطة في أوروبا، خاصة بعد محاولات الاتحاد الأوروبى لتطويقها، بعد خطوة "بريكست"، والتي حملت وجها جديدا للتنافس بين القوى الأوروبية، مع صعود فرنسا، والتي تسعى لمزاحمة ألمانيا، عبر بوابة الكيان المشترك، بينما تحاول لندن الحصول على راية القيادة من خارجه، عبر خلق صراع جديد مع روسيا، والتي تعد خصما تاريخيا للغرب، لتضع نفسها في صورة "خط الدفاع" الأول عن محيطها القارى، مستغلة تغير التوجهات الأمريكية، تحت إدارة بايدن، نحو العودة إلى دائرة الصراع مع موسكو، بعد سياسة المهادنة التي سبق وأن تبناها الرئيس السابق دونالد ترامب.
وهنا يمكننا القول بأن العلاقة بين روسيا ونساء السلطة في أوروبا، وعلى رأسهن الملقبات بـ"المرأة الحديدية"، حملت شكلا خاصا، يمكننا تسميته بحالة "غرام وانتقام"، حيث تحمل في بدايتها صورة انتقامية، بينما تتغير في النهاية طبقا لمستجدات التنافس الأوروبى على القيادة الإقليمية للقارة العجوز، لتحمل مناحى أخرى، تصل إلى حد التعاون، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لحالة من الصراع الذى تغطيه "الوحدة" الأوروبية، إلا أنه ربما يمر بمراحل خطيرة مع التغيرات الكبيرة في المشهد الدولى في الآونة الأخيرة.