إرث من الأكاذيب ارتبط إلى حد كبير بمصطلح "النهضة"، فى عقلية المواطن المصرى، خلال عقد من الزمان، في إطار صدمات متتالية ارتبطت بكلمة، تحمل، في معانيها المجردة، الخير والنماء، لشعب يتوق إلى تحقيق الإنجازات، بينما كان "بريق" الكلمة مجرد غطاء مشبوه، لحالة أشبه بالكراهية لهذه الأرض، والساكنين عليها، سواء في الداخل أو الخارج، بدءً من "فنكوش" الجماعة الإرهابية، التي استخدمت الكلمة للترويج لنفسها، فى إطار الدعاية الانتخابية في أعقاب "الربيع العربى"، ليسيطروا من خلالها على مفاصل الدولة في الداخل، وحتى السد الإثيوبى، والذى جاء ليحمل نفس الاسم، وربما دعاية شبيهة، من حيث تداعياته الاقتصادية العظيمة التي لا تقتصر على إثيوبيا، وإنما تمتد إلى محيطها الجغرافى، ليثير تحفظا كبيرا لدى قطاع كبير من الشارع المصرى، ناهيك عن الدولة ومؤسساتها.
ولعل المثير للانتباه، فيما يتعلق بمصطلح "النهضة"، أنه ارتبط لدى المروجين إليه بحلم السيطرة، والاستيلاء على مقدرات المصريين، والاستحواذ عليها، عبر ترويج الأكاذيب، إلى الحد إلى استخدام كافة سبل التشويه، بدءً من الدولة المصرية ومؤسساتها، وحتى المواطن العادى، الذى لم يتجاوز حقه في الدفاع عن نفسه وبقائه، بوصفه بـ"البلطجة"، على غرار الدعاية، لتبرير النهج الدموى الذى تبنته الجماعة الإرهابية، بينما اعتمد الخطاب الأثيوبي نهجا يقوم على إلقاء الاتهامات جزافا بحق المصريين، حول رفضهم لتحقيق التنمية هناك، والمصادرة على حقوقهم، وهو الأمر الذى يجافى الحقيقة تماما، في ضوء موقف مصر الواضح، والقائم على دعم التنمية في إفريقيا، وفى القلب منها إثيوبيا ولكن دون المساس بحقوق مصر المائية في نهر النيل والتي نصت عليها الاتفاقات الدولية، في حين تبنت الدولة المصرية خطابا معتدلا بالرغم من تعقد الأمور، حتى أن الرئيس عبد الفتاح السيسى حرص على وصفهم بـ"الأشقاء"، في كلمة له، في انعكاس صريح لاعتماد دبلوماسية "الصبر الاستراتيجي" باعتبارها الأساس في أية مفاوضات حول مستقبل السد المثير للجدل.
الأكاذيب التي ارتبطت بسد "النهضة"، في جوهرها، سارت على مسارين، أحدهما رسمي، يقوم على الخطاب الرسمي الذى اعتمد نهج المماطلة، لكسب الوقت، لاتهام الجانبين المصرى والسودانى بالتعنت على غير الحقيقة، بينما كان هناك مسارا أخر، يحمل نكهة شعبوية، عبر صفحات على مواقع التواصل الاجتماعى، بعضها باللغة العربية، هدفها الأساسى خلق حالة من الاحتقان بين الشعبين المصرى والإثيوبى، وإظهار المواطن المصرى في صورة الحاقد العنصرى، بل وداعية الحرب، عبر منشورات استفزازية، تهدف إلى جر المصريين إلى معارك كلامية معهم، تؤدى في النهاية إلى خدمة النظام الحاكم هناك، أولها التشويه، لتقديم ما يمكننا تسميته بـ"أكذوبتهم" الكبرى، عبر تصدير صورة غير حقيقية لنا أمام شعبهم، وأما الهدف الثاني خلق حالة من الحشد وراء رئيس الوزراء آبي أحمد، الذي يعاني جراء المستجدات في الداخل، والتي تعكس حالة من الرفض الشعبي له، على خلفية انتماءاته القبلية، والتي تحكم سياساته وتوجهاته.
ويعد الوضع الداخلى المتأزم في الداخل الأثيوبي دافعا رئيسيا لرئيس الوزراء، لتصدير "فنكوش" التنمية لبني شعبة، عبر وعود بتحسن حالتهم الاقتصادية، في الوقت الذي فشل فيه في إرساء دعائم الاستقرار والسلم الاهلي، وهو ما تجلى في الانتهاكات التي ارتكبتها قواته في إقليم تيجراى، والتي انتفض لها العالم بأسره في الشهور الماضية، هو ما يعكس تعارضا صارخا في الخطاب الاثيوبي، فكيف تتحقق التنمية في ظل صراع قبلي يأكل الأخضر واليابس؟!!
لا تخلو الأحاديث الإثيوبية نفسها من أكاذيب أخرى صغيرة، على غرار السيادة على النهر، وهو ما يعد مغالطة كبيرة، فالسيادة تنطبق على النهر الداخلى (الذى يبقى من المنبع إلى المصب داخل حدود الدولة)، وبالتالي لا يحق مراجعة الدولة في أي مشروعات تقام على أي منطقة من النهر في هذه الحالة، بينما يبقى النهر الدولى حالة مختلفة في القانون الدولى، حيث يكون لدول المصب ما يشبه "حق الفيتو" على أي مشروع يمكن إقامته، على مجرى النهر لضمان حقوقها المائية المشروعة.
وعلى الرغم من الرخصة القانونية التي تحظى بها مصر، والتي تعطيها الحق في عرقلة المشروع، إلا أنها قدمت في أكثر من محطة خلال مارثون التفاوض ما يثبت حسن نيتها، ربما أبرزها التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ، والذى يعكس دعم مصر للتنمية في البلد الإفريقى، ولكن دون مساس بحقوق مصر التاريخية في مياه النيل.
لفظ "النهضة" بات مصطلحا يحمل الكثير من المشاعر المختلطة لدى المصريين، فقد ارتبط باستهدافهم، سواء بالإرهاب، كما هو الحال قبل سنوات، أو بالعطش كما في الحاضر، ولكنه يبقى في النهاية على مروجى الأكاذيب أن ينظروا إلى دروس التاريخ، فالمصريين ينتصرون في النهاية، بفضل ما لديهم من جلد يجعلهم يصبرون، حتى صار الصبر أحد سماتهم، ولكن يبقى "للصبر حدود".. هكذا حذرت السيدة أم كلثوم يوما ما، بينما يظل صوتها الهادر مدويا في شوارع المحروسة، يقدم رسائل شعب للعالم.. لعلهم يتفهمون.