خطط الانسحاب الأمريكي من مستنقعات الحروب ربما ليست جديدة، على الإطلاق، ففكرة الخروج من الشرق الأوسط والأدنى، كانت على سبيل المثال، ضمن الخطاب الانتخابى، الذى تبناه الرئيس الأسبق باراك أوباما منذ عام 2008، بل أنها كانت في صدارة وعوده آنذاك، حيث كانت الإدارات الأمريكية، خاصة فى أعقاب الحروب التي خاضتها أمريكا ردا على أحداث 11 سبتمبر، تدرك جيدا أن الأمور لن تكون على ما يرام، حال استمرار واشنطن في القيام بدور عسكرى، في مناطق الصراع، سواء على الجانب الاقتصادى، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم، بين عامي 2007 و2008، أو على المستوى العسكرى، في ظل استهداف الجنود الأمريكيين في العديد من مناطق الصراع، والذى أسفر على خسائر كبيرة في الأرواح، ناهيك عما تتكبده الخزانة الأمريكية من ملايين إثر انغماسها في تلك المعارك.
ولكن الانسحاب العسكرى الأمريكي، على ما يبدو، كان في حاجة إلى بدائل لتبدأ واشنطن، مع بداية حقبة أوباما، أو ربما مع نهايات عهد سلفه جورج بوش الإبن، ما يمكننا تسميته بـ"رحلة البحث عن وكيل"، يمكنه حماية المصالح الأمريكية، في تلك المناطق، بحيث يمكنه ملء الفراع الناجم عن الغياب الأمريكي، عبر دعمهم اقتصاديا، دون الانغماس المباشر في مناطق الصراع، وما ينجم عنه من خسائر كبيرة، في الوقت الذى يمكن من خلاله للولايات المتحدة، توطيد نفوذها في مناطق جديدة، تتناسب مع معطيات الصراع الجديد، مع الصين، والتي تسعى، على الأقل، للمشاركة في صناعة القرار الدولى، في المرحلة المقبلة، والتي قد تشهد نظاما جديدا لن تنفرد فيه قوى بعينها بقيادة العالم.
فلو نظرنا إلى التحركات الأمريكية خلال تلك السنوات، بدءً من ولاية أوباما الأولى، ربما نجد تغييرات عميقة في السياسة الأمريكية، بدأت بالتخلى عن الحلفاء التقليديين، في منطقة الشرق الأوسط، وتقديم دعم غير مشروط للتنظيمات المتطرفة، وهو ما تجلى في أبهى صوره خلال "الربيع العربى" إلى حد تمكينهم، من السلطة في بلدانهم، مقابل القيام بدور "الوكيل" الأمريكي كل في بلده، عبر تحويلهم إلى أدوات طيعة، يمكن من خلالها، حماية مصالح واشنطن، في مرحلة ما بعد الانسحاب، في إطار سياسة "الولاء مقابل التمكين"، وهى السياسة التي طالما استخدمتها العديد من القوى الإقليمية، خاصة في منطقتنا، من أجل توسيع نفوذها على حساب القوى العربية الرئيسية.
إلا أن فشل ما يمكننا تسميته بـ"صفقة" الربيع العربى، كان صدمة كبيرة، ليس فقط لتلك التنظيمات التي لاحت لها السلطة، بعد سنوات من "الجهاد" من أجل الكرسى، وإنما أيضا للولايات المتحدة، والتي فشلت مخططاتها فعليا، خاصة بعد ثورة 30 يونيو في مصر، والتي كانت بمثابة نقطة الانطلاق للعديد من الدول الأخرى في المنطقة، لتحقيق انتصارات متتالية على الإرهاب، استطاعت القضاء فعليا على "الوكيل" المنشود، الذى يمكنه تحقيق تلك المعادلة التي تطمح إليها واشنطن.
وهنا كانت مساع أمريكية جديدة، لتغيير وجهة "الوكيل" عبر العودة إلى التحالفات التقليدية، في منطقة الشرق الأوسط، والسعى إلى توحيدهم، مقابل توجيه بوصلتهم نحو الرؤية الأمريكية، وهو ما بدا في مستهل إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، عندما شارك في قمتين، أحدهما عربية وأخرى خليجية، خلال أول جولة خارجية له، بعد صعوده إلى عرش البيت الأبيض، في مايو 2017، في الوقت الذى ثارت فيه مقترحات من واشنطن، حول تشكيل ما يسمى بـ"الناتو العربى"، إلا أن تلك المحاولات ربما لم يكتب لها نجاحا كبيرا إثر غياب قدر كبير من الثقة في مصداقية واشنطن تجاه حلفائها، بسبب الدور الكبير الذى لعبته في خلق الفوضى بدول المنطقة من جانب، ناهيك عن الارتباك الكبير في العلاقات بين أمريكا وحلفائها في أوروبا الغربية، خلال السنوات الماضية، من جانب أخر.
يبدو أن إدارة بايدن تتجه نحو مسعى جديد، في المرحلة الراهنة، في إطار "رحلة البحث عن وكيل" في الشرق الأوسط، يقوم في الأساس على مباركة الدور الذى قد يقوم به حلفاء واشنطن في مناطق أخرى، من العالم، سواء في آسيا، على غرار اليابان، والتي بدأ دورها في الظهور في المنطقة خلال السنوات الماضية، عبر الوساطة بين إدارة ترامب وإيران، وتسعى حاليا للدخول في المنطقة، عبر توطيد علاقتها مع العرب، وهو ما بدا في جولة وزير خارجية اليابان، إلى المنطقة، والتي استهلها بزيارة مصر، حرصه على زيارة الجامعة العربية، ولقاء مسئوليها، في انعكاس صريح لمحاولات طوكيو للتقرب من العرب.
المحاولة اليابانية، تحمل في طياتها رغبة قوية للقيام بدور في المنطقة، في مرحلة ما بعد الخروج الأمريكي، كما تمثل محاولة لخلق قدر من التوازن مع الصين، والتي تتخذ نفس النهج، في إطار سعيها لملء الفراغ الأمريكي، الناجم عن الانسحابات المتواترة.
لم يتوقف الأمر على اليابان، فهناك حالة من النشاط الدبلوماسي الملموس لدى دول أوروبا الشرقية، والتي تعد أحد أهم المناطق المستهدفة التي تسعى واشنطن للتحالف معها، في السنوات الأخيرة على حساب دول أوروبا الغربية، حيث شهدت الدول العربية، وعلى رأسها مصر، زيارات متواترة، من قبل مسئوليهم في الأشهر الماضية، بحثا عن دور ملموس في المرحلة المقبلة.
ولعل حالة الزخم الدبلوماسي الكبير الذى تشهده المنطقة في المرحلة الراهنة، يدحض تماما النظريات القائمة على فكرة تراجع أهمية المنطقة في المرحلة المقبلة، بعد الانسحاب الأمريكي، بل أنها تحولت إلى منطقة استقطاب للعديد من الدول، مما يدفع إلى ضرورة استغلال تلك الحالة، لتحقيق أكبر قدر من المصالح العربية، في ظل تعدد القوى الدولية الساعية للقيام بدور، بعد سنوات من الاستئثار الأمريكي.