حالة من التوحد الشعبى، تشهدها تونس خلف قرارات الرئيس قيس سعيد الأخيرة، ربما تمثل انعكاسا للأزمات التي شهدها الداخل، في الأشهر الماضية، وتجلت بوضوح في الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع الإصابات بفيروس كورونا، ناهيك عن محاولات احتكار السلطة من قبل قوى سياسية بعينها، إلا أن حالة التوحد وراء الرئيس التونسى، ليست بالأمر الجديد تماما، حيث سبق له وأن اكتسح انتخابات الرئاسة، قبل ما يقرب من عامين، رغم غياب الخلفية الحزبية على حساب قطاع كبير من الساسة المدعومين من قبل العديد من الأحزاب التقليدية في تونس.
ولعل الحالة التونسية، والتي تتسم بـ"التمرد" على السياسة التقليدية، تبقى بمثابة جزء لا يتجزأ عن حالة أعم وأشمل يشهدها المجتمع الدولى، في السنوات الأخيرة، في إطار ما يمكننا تسميته بـ"إرهاصات" حقبة دولية جديدة، ربما تندثر فيها المبادئ التي طالما أرساها الغرب لعقود طويلة من الزمن، تحت مظلة الديمقراطية، حيث كانت الأحزاب السياسية وحرية تشكيلها وتوجهاتها أحد أهم أضلاعها، ناهيك عن التنظير الغربى المتواتر عن شرعية الصناديق الانتخابية، باعتبارها المعيار الوحيد الذى تقوم عليه السلطات المنتخبة في مختلف دول العالم.
فلو نظرنا إلى العديد من النماذج حول العالم، ربما نجد أن ثمة "انقلابات" شعبية ناعمة، أطاحت بالأحزاب السياسية، عبر اختيار مرشحين دون مرجعية حزبية، وهو ما ينطبق على الرئيس التونسى قيس سعيد، ورئيس السلفادور ناييب بوكيلى، وكلاهما تشاركا في عام الوصول إلى رأس السلطة في بلديهما، في عام 2019، وإن كان الأخير قد سبق الأول بعدة أشهر، في حين كانت هناك شواهد أخرى، عبرت فيها الشعوب عن رفضها للأجندات الحزبية النمطية، من خلال اختيار مرشحى أحزاب جديدة، لم تتجاوز أعمارها في بعض الأحيان العام الواحد، على غرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذى أسس حزبه "الجمهورية إلى الأمام"، في أبريل 2016، بينما خاض الانتخابات الفرنسية، في أبريل 2017، ليحقق انتصارا مدويا على أعرق الأحزاب في باريس.
ربما كان وصول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إلى السلطة هو الأخر، بمثابة تعبير من نوع أخر عن التمرد على الرؤية النمطية للأحزاب الأمريكية، فالرجل، رغم أنه كان يحمل شعار الحزب الجمهورى، إلا أنه حمل بالتزامن خطابا مختلفا، ذات نكهة شعبوية، ربما يعكس في جزء منه حداثة عهده بالسياسة في ذلك الوقت، إلا أنه لاقى رضا قطاع كبير من المواطنين، لينتصر على سياسية مخضرمة، تحمل إرثا تاريخية، لحزبها الديمقراطى العريق.
وفى الواقع فإن الحالات المذكورة، سواء في تونس أو السلفادور أو فرنسا أو الولايات المتحدة، ربما ليست الوحيدة، فهناك نماذج أخرى، تبدو فيها الأحزاب السياسية، وأجنداتها النمطية في مأزق حقيقى، وإن اختلفت الصورة، سواء عبر الاحتجاجات، أو أحداث العنف، والتي كانت تقتصر في الماضى، على دول منطقتنا، لتصبح الظاهرة أوسع نطاقا، وهو ما يبدو في العديد من دول الغرب الأوروبى، وحتى الولايات المتحدة، والتي شهدت تظاهرات عنيفة، وصلت إلى حد اقتحام الكونجرس، في يناير الماضى، احتجاجا على نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتي فاز بها الرئيس الحالي جو بايدن، في انعكاس صريح لتغير كبير في المشهد السياسى الدولى برمته، خاصة وأن الغرب وخاصة الولايات المتحدة، دائما ما تعتبر أن ما تسفر عنه صناديق الانتخاب هو بمثابة "مقدسات" لا يجوز انتهاكها.
وهنا تصبح المعضلة التي تواجه العديد من الأحزاب السياسية في العالم، هي كيفية الخروج من النطاق النمطى التقليدي، في ظل اتساع مجال التنافس السياسى، والذى لم يعد قاصرا على خصومهم الحزبيين، وإنما امتدت لتشمل قطاعات أخرى، ربما يصعب حصرها، في ظل صعود عدد من المغمورين، الذين يفتقرون للدعم الحزبى، ليكونوا المنافس الأكثر شراسة لهم في العملية السياسية الحديثة، في الوقت الذى يشهد فيه العالم بأسره تغييرات عميقة في المفاهيم السائدة، كالديمقراطية وحقوق الإنسان، وغيرها من المفاهيم، التي بات الانطباع العام عنها في الكثير من الأحيان مختلفا، فتحول بعضها إلى مصطلحات "سيئة السمعة"، في الوقت الذى اتخذت فيه مفاهيم سلبية، إلى منحى إيجابى، منها على سبيل المثال الأنظمة التي روج لها الغرب باعتباره "قمعية"، حيث تغيرت الصورة تجاهها إلى حد كبير مع نجاحها المنقطع النظير في احتواء الأزمات الكبرى، على غرار أزمة كورونا.