"التوجه شرقا".. شعار رفعته عدة قوى دولية، في السنوات الأخيرة، في إطار إعادة هيكلة "نفوذها"، مع تغير المعطيات، وهو الأمر الذى يمثل انعكاسا صريحا، لحالة التنافس على قمة النظام الدولى، بين القوى المهيمنة، وهى الولايات المتحدة، من جانب، والقوى الصاعدة بقوة، سواء روسيا والصين، وكلاهما خارج ما يعرف تاريخيا بـ"المعسكر الغربى"، حيث أصبحت دول أوروبا الشرقية هدفا أمريكيا صريحا، منذ حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، بينما سعت الصين إليها عبر استثماراتها، بالتزامن مع التحرك الأمريكي، في الوقت الذى عانت فيه العديد من دول تلك المنطقة، من تجاهل القوى الرئيسية في أوروبا، في ضوء الأزمات الاقتصادية التي لاحقتهم، رغم عضوية الكثير منهم في الاتحاد الأوروبى.
ولعل التنافس الكبير على استقطاب أوروبا الشرقية، يمثل انعكاسا صريحا لتغير الأدوار في القارة العجوز في المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذى لا يقتصر على دول تلك المنطقة، وإنما يفتح الباب أمام دول أخرى في القارة، للقيام بدور في العديد من القضايا الدولية، بعيدا عن القوى التقليدية، وهو الأمر الذى ربما يمكن الالتفات إليه، من خلال بعض الشواهد، منها على سبيل المثال اختيار العاصمة البولندية وارسو، لتكون مقرا للمؤتمر الذى عقدته واشنطن، في فبراير 2019، للضغط على إيران، وحضره العديد من الدول حول العالم، بالإضافة إلى الرؤى الأمريكية القائمة على تكثيف تواجدها العسكرى هناك، عبر إنشاء قواعد عسكرية في بعض الدول الجديدة، وهو ما يحمل في طياته، حقيقة مفادها أن ثمة تغيير واضح في الخريطة الدولية، أو بمعنى أخر أن هناك رهانا دوليا جديدا في أوروبا، بعيدا عن المناطق الرئيسية التي طالما اعتمدتها واشنطن، وذلك لمزاحمة خصومها، سواء روسيا، عبر مضايقتها في مناطق تمثل عمقا استراتيجيا لها، أو الصين، والتي دخلت إلى المنطقة بثقلها الاقتصادى، في الوقت الذى تخلى فيه عنها شركائها الأوروبيين.
ويعد نجاح الدول الأوروبية، الصغيرة نسبيا، في استقطاب هذا القدر من التنافس الدولى، بمثابة ميلاد حقبة جديدة، من صعود "النمور" في القارة العجوز، على غرار ما شهدته آسيا، في التسعينات من القرن الماضى، عندما صعدت الصين والهند، لتصبح القوى الرئيسية هناك، وبعدها بسنوات قليلة، تحول "النمر" الصينى إلى "تنين"، يسعى لالتهام عرش النظام الدولى، من القوى الأمريكية، التي هيمنت على العالم، لحوالي 3 عقود كاملة من الزمان
وهنا يمكننا القول بأن مناطق الاستقطاب الدولى الجديدة، في القارة الأوروبية، تمثل فرصة مهمة، للدول العربية، للتأثير على الخطاب الدولى، المرتبط بالعديد من قضايا المنطقة في المرحلة الراهنة، باعتبارها أرض خصبة، حيث لا تزال دولها تستكشف طريقها، نحو القيام بدور ملموس على الساحة الدولية، وذلك بالتزامن مع توجه عربى صريح نحو تغيير، أو بالأحرى، تنويع التحالفات الدولية، عبر التقارب مع القوى الدولية الصاعدة، وعلى رأسها الصين، وروسيا، ناهيك عن استكشاف نقاط جديدة في خريطة التحالفات التقليدية، على غرار الخطوات المصرية الواسعة، للتقارب مع العديد من الدول الأوروبية الصاعدة، كاليونان وقبرص، بالإضافة إلى عدد من دول أوروبا الشرقية، التي ربما استلهمت التجربة اليونانية القبرصية، وتسعى إلى التقارب مع مصر، وهو ما يبدو في زيارات عدة قام بها وزراء خارجية التشيك، ولوكسمبورج واليونان وقبرص ناهيك عن وفد دبلوماسي رومانى رفيع المستوى، وغيرهم.
ويمثل التقارب مع مصر مدخلا مهما لتوسيع العلاقة مع العرب، وهو ما بدا فيما شهدته تلك الزيارات من لقاءات مع مسئولي جامعة الدول العربية، لتكون بمثابة فرصة مهمة، لمراجعة الموقف من القضايا العربية الرئيسية، وأهمها القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى الأوضاع في العراق وسوريا وغيرهما، والسعى نحو الحصول على دعمهم في تلك القضايا، من أجل تحقيق الاستقرار، في الشرق الأوسط، مما يفتح الباب أمام تحالف مهم بين القوى الصاعدة في أوروبا، والمنطقة العربية، عبر الكيان المشترك، والذى يمثل حاميا رئيسيا للهوية، منذ تأسيسه في الأربعينات من القرن الماضى.
وهنا يمكننا القول بأن التقارب مع القوى الجديدة، في القارة العجوز، يمثل انعكاسا صريحا لقراءة المشهد الدولى الجديد، مع تصاعد الدور الكبير الذى تلعبه تلك الدول، في ضوء الاستقطاب الكبير الذى تشهده بين أمريكا وخصومها، وهو ما يساهم في زيادة فرصها في القيام بدور أوسع، وبالتالي يصبح الفوز بدعمها للقضايا العربية الرئيسية، بمثابة انتصارا دبلوماسيا مهما، خاصة مع الزخم الكبير الذى تشهده العلاقات العربية مع الصين وروسيا في المرحلة الراهنة، وهو ما سوف يساعد إلى حد كبير في ممارسة قدر أكبر من الضغط الدولى للاحتفاظ بالحقوق العربية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة