ربما ليس مستغربا تلك المنافسة الحادة التي شهدتها أولمبياد طوكيو، في صراع الميداليات، بينما تبقى اقتصار المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، على القمة، ليس بالأمر الجديد، فكلاهما يملك تاريخ تنافسى كبير على الصدارة، إلا أن التقارب الكبير بينهما، حيث تصدرت أمريكا قائمة الترتيب، في اليوم الأخير للحدث الرياضى الأهم عالميا، وبفارق ميدالية ذهبية واحدة، فيما يمثل انعكاسا صريحا لحدة المنافسة، والتي تتجاوز في حقيقتها الحقل الرياضى، وإنما تحمل في طياتها أبعادا أخرى أوسع نطاقا، تتعلق بالصراع الدولى القائم حاليا، في إطار مرحلة انتقالية يشهدها النظام العالمى، لتدشين حقبة جديدة، لن تنفرد قوى بعينها بالهيمنة، على غرار الوضع السائد منذ نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتى، ولكنها على ما يبدو سوف تتسم بقدر كبير من التعددية.
ولعل المنافسة الحادة، والتقارب الكبير بين الصين والولايات المتحدة فيما يتعلق بأعداد الميداليات، التي حققها أبطال البلدين، خلال الأولمبياد، ينم في جوهره، عن حقائق عدة، تتجلى في الأهمية الكبيرة التي باتت تمثلها المنافسات الرياضية، في رسم الخريطة الدولية، وهو ما يبدو في تكريس العديد من الإمكانات والأموال، التي يتم رصدها لإعداد أبطال، يمكنهم الوقوف على منصات التتويج، في مختلف الألعاب، وهو ما يمثل نجاحا لا يمكن تجاهله، عند قياس الدور الذى يمكن أن تلعبه الدول في العالم، في ظل الشعبية الكبيرة التي تحظى بها الرياضة، بصورتها العامة، وبعض الألعاب بشكل خاص، لدى قطاع كبير من الشعوب حول العالم، وهو ما يخلق ارتباطا بينهم، وبين أبطال ألعابهم المفضلة، ويساهم بصورة أو بأخرى، في زيادة شعبيتهم، ومن ورائهم شعبية بلادهم، لدى شعوب الدول الأخرى.
وهنا يصبح النجاح الرياضى، سواء عبر بوابة الأولمبياد، أو غيرها من البطولات العالمية الأخرى، بوابة من بوابات النفوذ الدولى، بعيدا عن جمود السياسة، في ظل متغيرات عدة شهدها العالم، وضعت العديد من الأولويات على عاتق القوى التي ترغب في القيام بدور دولى في المرحلة المقبلة، من خلال التقارب مع الشعوب، أكثر منه السياسات التقليدية التي قامت في الأساس على حشد الحلفاء، عبر التنسيق مع الأنظمة الحاكمة في الدول الأخرى، في مختلف مناطق العالم.
فلو نظرنا إلى فترة الحرب الباردة، نجد أن ثمة تغيير كبير تشهده طبيعة حشد التحالفات، في إطار الصراع الأمريكي السوفيتى، نجد أن الطرفان المتصارعان اتجها إلى أسلوب المعسكرات (غربى وشرقى)، للحصول على دعم رسمي من الدول الموالية لهم، مقابل مزايا اقتصادية أو سياسية، في مواجهة الطرف الأخر، بينما كانت الشعوب بعيدا عن حسابات القوى العظمى في تلك الفترة، وهو الأمر الذى انتهى بانتصار أمريكى، ربما يرجع في الأساس إلى قوة وثبات الاقتصاد الأمريكي، وقدرته الكبيرة على الاحتفاظ بولاء دول ما يسمى بالمعسكر الغربى، على عكس الجانب الأخر، والذى عانى إثر انهيارات اقتصادية هيكلية، امتدت إلى داخل الاتحاد السوفيتى نفسه، والذى تجلت بذور انهياره مع صعود المطالبات بين دول الكتلة الشرقية بالانفصال عن موسكو.
في حين تبقى معطيات المرحلة الحالية التي تمثل مخاضا لميلاد نظام دولى جديد، مختلفة إلى حد كبير، فصار التقارب مع الشعوب أولوية تفوق في أهميتها التقارب مع الأنظمة، وهو ما يتجلى في أزمة اندلاع فيروس كورونا، والتي قامت فيها الصين بتقديم المساعدات، ليس فقط لحلفائها، وإنما أيضا للخصوم من دول المعسكر الغربى، وعلى رأسها إيطاليا وإسبانيا، وألمانيا وغيرهم من الدول الحليفة للولايات المتحدة، لتخلق ارتباطا كبيرا مع شعوبها، ناهيك عن السعي نحو التواصل معهم في اتفاقات اقتصادية، تحقق على الأقل تحييدا سياسيا لهم، إن لم تستطيع استقطابهم إلى جانبها، فيما يتعلق بالصراع الدائر مع واشنطن، وبالتالي تجريد القوى الأمريكية من أبرز حلفائها الدوليين، والذين لعبوا دورا محوريا في الهيمنة الأمريكية طيلة العقود الثلاثة الماضية.
وهنا يمكننا القول بأن المشهد الحالي، فيما يتعلق بالتنافس بين الصين والولايات المتحدة، ليس مجرد منافسة اقتصادية، كما تحاول واشنطن الترويج له، وإنما هو حرب متعددة الأبعاد، تحمل في طياتها جانب سياسى، وإنسانى وثقافى، ناهيك عن البعد الاقتصادى، والذى يبقى مفصليا إلى حد كبير في تحديد الدور الدولى الذى يمكن أن تلعبه كل قوى في النظام الدولى الجديد، كما أنه ليس صراعا ثنائيا، ولكنه في جوهره صراعا جماعيا، لا يحمل فقط جانبا رسميا، عبر المواقف الدولية التي يعبر عنها القادة، وإنما باتت تلعب فيه الشعوب دورا بارزا، عبر التعاطف مع طرف دون الأخر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة