الأيام المتوترة فى التاريخ الإسلامى كثيرة، والفتن كانت تقع كثيرا، من ذلك فتنة عبد الرحمن بن الأشعث فى سنة 81 هجرية، فما الذى يقوله التراث الإسلامي؟
يقول كتاب البداية والنهاية للحافظ ابن كثير تحت عنوان "فتنة بن الأشعث":
قال أبو مخنف: كان ابتداؤها فى هذه السنة (80 هجرية) وقال الواقدى: فى سنة ثنتين وثمانين، وقد ساقها ابن جرير فى هذه السنة فوافقناه فى ذلك.
وكان سبب هذه الفتنة أن ابن الأشعث كان الحجاج يبغضه، وكان هو يفهم ذلك ويضمر له السوء وزوال الملك عنه، فلما أمره الحجاج على أحد الجيوش وأمره بدخول بلاد رتبيل ملك الترك فمضى وصنع ما قدمناه من أخذه بعض بلاد الترك، ثم رأى لأصحابه أن يقيموا حتى يتقووا إلى العام المقبل، فكتب إلى الحجاج بذلك فكتب إليه الحجاج يستهجن رأيه فى ذلك ويستضعف عقله ويقرعه بالجبن والنكول عن الحرب، ويأمره حتما بدخول بلاد رتبيل، ثم أردف ذلك بكتاب ثانى ثم ثالث مع البريد، وكتب فى جملة ذلك يا ابن الحائك الغادر المرتد، امض إلى ما أمرتك به من الإيغال فى أرض العدو وإلا حل بك ما لا يطاق.
وكان الحجاج يبغض ابن الأشعث ويقول: هو أهوج أحمق حسود، وأبوه الذى سلب أمير المؤمنين عثمان ثيابه وقاتله، ودل عبيد الله بن زياد على مسلم ين عقيل حتى قتله، وجده الأشعث ارتد عن الإسلام وما رأيته قط إلا هممت بقتله.
ولما كتب الحجاج إلى ابن الأشعث بذلك وترادفت إليه البرد بذلك غضب ابن الأشعث وقال: يكتب إلى بمثل هذا وهو لا يصلح أن يكون من بعض جندى ولا من بعض خدمى لخوره وضعف قوته؟ أما يذكر أباه من ثقيف هذا الجبان صاحب غزالة - يعنى أن غزالة زوجة شبيب حملت على الحجاج وجيشه فانهزموا منها وهى امرأة لما دخلت الكوفة.
ثم إن ابن الأشعث جمع رؤوس أهل العراق وقال لهم: إن الحجاج قد ألح عليكم فى الإيغال فى بلاد العدو، وهى البلاد التى قد هلك فيها إخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد، فانظروا فى أمركم أما أنا فلست مطيعه ولا أنقض رأيا رأيته بالأمس، ثم قام فيهم خطيبا فأعلمهم بما كان رأى من الرأى له ولهم، وطلب فى ذلك من إصلاح البلاد التى فتحوها، وأن يقيموا بها حتى يتقووا بغلاتها وأموالها ويخرج عنهم فصل البرد ثم يسيرون فى بلاد العدو فيفتحونها بلدا بلدا إلى أن يحصروا رتبيل ملك الترك فى مدينة العظماء، ثم أعلمهم بما كتب إليه الحجاج من الأمر بمعالجة رتبيل.
فثار إليه الناس وقالوا: لا بل نأبى على عدو الله الحجاج ولا نسمع له ولا نطيع، قال أبو مخنف: فحدثنى مطرف بن عامر بن وائلة الكناني، أن أباه، كان أول من تكلم فى ذلك، وكان شاعرا خطيبا، وكان مما قال: إن مثل الحجاج فى هذا الرأى ومثلنا كما قال الأول لأخيه أحمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك، وإن نجا فلك، أنتم إذا ظفرتم كان ذلك زيادة فى سلطانه، وإن هلكتم كنتم الأعداء البغضاء، ثم قال: اخلعوا عدو الله الحجاج - ولم يذكر خلع عبد الملك - وبايعوا لأميركم عبد الرحمن ابن الأشعث فإنى أشهدكم أنى أول خالع للحجاج.
فقال الناس من كل جانب: خلعنا عدو الله ووثبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث فبايعوه عوضا عن الحجاج، ولم يذكروا خلع عبد الملك بن مروان، وبعث ابن الأشعث إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظفروا بالحجاج فلا خراج على رتبيل أبدا.
ثم سار ابن الأشعث بالجنود الذين معه مقبلا من سجستان إلى الحجاج ليقاتله ويأخذ منه العراق، فلما توسطوا الطريق قالوا: إن خلعنا للحجاج خلع لابن مروان فخلعوهما وجددوا البيعة لابن الأشعث فبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله وخلع أئمة الضلالة وجهاد الملحدين، فإذا قالوا: نعم بايعهم.
فلما بلغ الحجاج ما صنعوا من خلعه وخلع ابن مروان، كتب إلى عبد الملك يعلمه بذلك ويستعجله فى بعثه الجنود إليه، وجاء الحجاج حتى نزل البصرة، وبلغ المهلب خبر ابن الأشعث، وكتب إليه يدعوه إلى ذلك فأبى عليه، وبعث بكتابه إلى الحجاج، وكتب المهلب إلى ابن الأشعث يقول له: إنك يا ابن الأشعث قد وضعت رجلك فى ركاب طويل، ابق على أمة محمد ﷺ، انظر إلى نفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت أخاف الناس على نفسى فالله أحق أن تخافه من الناس، فلا تعرضها لله فى سفك الدماء، أو استحلال محرم والسلام عليك.
وكتب المهلب إلى الحجاج أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل السيل المنحدر من علو ليس شيء يرده حتى ينتهى إلى قراره، وإن لأهل العراق شدة فى أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يصلوا إلى أهليهم وينبسطوا إلى نسائهم ويشموا أولادهم، ثم واقعهم عندها فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله، فلما قرأ الحجاج كتابه قال: فعل الله به وفعل، لا والله مالى نظر ولكن لابن عمه نصح.
ولما وصل البريد بكتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ذلك، ثم نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية فأقرأه كتاب الحجاج فقال: يا أمير المؤمنين إن كان هذا الحدث من قبل خراسان فخفه، وإن كان من قبل سجستان فلا تخفه، ثم أخذ عبد الملك فى تجهيز الجنود من الشام إلى العراق فى نصرة الحجاج وتجهيزه فى الخروج إلى ابن الأشعث، وعصى رأى المهلب فيما أشار به عليه، وكان فى شوره النصح والصدق، وجعلت كتب الحجاج لا تنقطع عن عبد الملك بخبر ابن الأشعث صباحا ومساءً، أين نزل ومن أين ارتحل، وأى الناس إليه أسرع.
وجعل الناس يلتفون على ابن الأشعث من كل جانب، حتى قيل أنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل، وخرج الحجاج فى جنود الشام من البصرة نحو ابن الأشعث، فنزل تستر وقدم بين يديه مطهر بن حيى الكعبى أميرا على المقدمة، ومعه عبد الله بن زميت أميرا آخر، فانتهوا إلى دجيل فإذا مقدمة ابن الأشعث فى ثلاثمائة فارس عليها عبد الله بن أبان الحارثي، فالتقوا فى يوم الأضحى عند نهر دجيل، فهزمت مقدمة الحجاج وقتل أصحاب ابن الأشعث منهم خلقا كثيرا نحو ألف وخمسمائة، واحتازوا ما فى معسكرهم من خيول وقماش وأموال.
وجاء الخبر إلى الحجاج بهزيمة أصحابه وأخذه مادب ودرج. وقد كان قائما يخطب فقال: أيها الناس ارجعوا إلى البصرة فإنه أرفق بالجند، فرجع بالناس وتبعهم خيول ابن الأشعث لا يدركون منهم شاذا إلا قتلوه، ومضى الحجاج هاربا لا يلوى على شيء حتى أتى الزاوية فعسكر عندها وجعل يقول: لله در المهلب أى صاحب حرب هذا، قد أشار علينا بالرأى ولكنا لم نقبل، وأنفق الحجاج على جيشه وهو بهذا المكان مائة وخمسين ألف ألف درهم، وخندق حول جيشه خندقا، وجاء أهل العراق فدخلوا البصرة واجتمعوا بأهاليهم وشموا أولادهم، ودخل ابن الأشعث البصرة فخطب الناس بهم وبايعهم وبايعوه على خلع عبد الملك ونائبه الحجاج بن يوسف، وقال لهم ابن الأشعث: ليس الحجاج بشيء، ولكن اذهبوا بنا إلى عبد الملك، لنقاتله، ووافقه على خلعهما جميع من فى البصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب، ثم أمر ابن الأشعث بخندق حول البصرة فعمل ذلك، وكان ذلك فى أواخر ذى الحجة من هذه السنة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة