كلمات تتزاحم فتمنع بعضها بعضا في الخروج للعلن، وأظل عاجزا عن الكتابة في مقال هو الأصدق على الإطلاق، لكنى سأحاول وأبدأ من حلم فيه تجلس أمامى أمى وهى بكامل عافيتها تتشاجر معى لأول مرة في حياتى، كنت مستغرقا في النوم بعد سهر طويل مشغولا عليها، لم يمر على نومى وقتها ساعة وإذا بصوت رسالة تصل عبر الواتس اب تيقظنى تماما، عندما شاهدتها وقفت على الفور وفتحتها، إنها أمى تنادينى بأعلى صوتها، للآن لم أعرف مضمون الرسالة بالكامل، فمناداتها لى كان كافيا لأن أفقد قدرتى على التحمل.
هرولت مسرعا ألملم أشيائى، لا أعرف ماذا أخذت منها، فتحت الباب إلى الشارع، وأنا مشتت، هل ألحق بأمى وارتمى في حضنها، كنت أشعر بأن قدماى تتحرك في السيارة المتجهة إلى أسيوط علنى أسبق الزمن.
لحظات لن تمحى من الذاكرة، ستظل تلاحقنى وفى كل مرة سينزف قلبى ألما على فراق الحبيبة، الغالية، وصلت إلى البيت ودخلت الغرفة فإذا بها جالسة وقد ارتسمت معالم الفرحة على وجهها، ظلت تزغرد، فرحا بقدومى، وهى لا تعرف قدر فرحتى برؤيتها.
الحزن حاصرنى والحسرة سيطرت على كل تفاصيلى عندما شاهدتها ضعيفة وقد سلب المرض قوتها، كان كل همى ألا أضيع دقيقة بعيدة عنها وتمنيت لو طال العمر لأشبع منها لكننى لم اشبع.
تفاصيل مميتة، قاتلة، كل شيء قالته أمى، كل حركة، كل توصية ما زالت تلازمنى ليل نهار، نمت بجوارها طوال الوقت، كانت ساعات النوم معدودة، ودعوت الله أن يمنحنى قدرة بمقتضاها لا أنام.
كان لدينا إصرار وتحد، في ألا تموت، لن نتركك تموتى يا أمى، من حولنا يعرفون إنها النهاية، يرسلون لنا رسائل مبطنة بذلك، فنرفض التصديق، فعلنا كل شيء، وتمنينا لو كان بإمكاننا شراء عمر لها لكنه القدر الذى لم يمهلنا.. ماتت أمى بيننا، رحلت في لحظة وتركتنى وإخوتى في نار مشتعلة تلتهم الأحشاء.
أمى العظيمة بشهادة الجميع، عاشت حياتها تعطى الجميع، المال والحب والتسامح، أمى الحبيبة علمتنا القيم، علمتنا أن الصدق شرف وأن الكذب ضعف وخيانة، علمتنا كيف نحترم أبانا ونحترم أعمامنا، علمتنا ألا نعاتب وأن نقدم الخير في صمت.
أمى العظيمة علمتنا القناعة والرضا وزرعت فينا الكبرياء دون تكبر، والقوة دون تجبر، فجعلتنا ملوكا بلا ملك، وأمراء بلا إمارة، أنجبت ملكات مثلها يتعاملن بأسلوب الأميرات النبيلات، وأنجبت رجالا يحسب لهم الحساب، وهم لا يسيئون لأحد.
أنا هنا سأكسر كل الأعراف والتقاليد، تقاليد الصعيد التي ترفض ذكر اسم المرأة، لكن أمى ليست كالنساء، أمى أعظم من كل النساء، إنها ليست شهادتى بل شهادة الجميع، أمى التي التف حولها الأحفاد قبل الأبناء وأبناء العمومة قبل الأعمام والعمات، أمى التي بكاها الرجال قبل النساء في السرادق المزدحم على مدار يومين، أمى التي حزن عليها كل شريف تستحق كسر جميع الأعراف.
السيدة الفاضلة العظيمة رقية محمد جعفر، كم أنا فخور أنك أمى، كم نحن سعداء لأنك أمنا، رأسنا يا أمى في عنان السماء، ونعرف أنك في الجنة، كل الشواهد تقول إنك في الجنة، كل الشواهد تؤكد يا شريفة الشريفات وعفيفة العفيفات تؤكد أنك منحتينا شرف نتمنى لو نستحقه، ونعدك يا أمى ان نظل على العهد وأن ننفذ جميغ وصاياك وأن نكون كما تمنيت وكما أردت، وسامحينا يا أمى سنخالفك فى شيء وحيد، وهو أننا لن نقبل من تجاهل قدرك الذى تستحقين ومن أنكر عطائك ومن تعامل مع رحيلك باستخفاف وأنكر خيراتك عليه.. وداعا يا أمى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة