ذات مساء فى صيف 1986، وكنت عائدا من الخارج إلى القاهرة فى أجازة، رأيت إبراهيم داود أول، وكان يجلس مع الصديق الراحل وليد منير، فجلست معهما وصخبنا واحتد النقاش بيننا عن الغناء الشرقى لا أتذكر نقطة الخلاف حينذاك، لكنى شعرت أننا سنصبح صديقين بمعنى ما فى يوم من الأيام. وكنت قد رأت له بعض القصائد فى مجلة إبداع قبل أن يضمنها كتابه الشعرى الأول (تفاصيل).
بعد ذلك صرنا صديقين، لكن هذا حديث آخر.
كانت القاهرة فى التسعينات تضج بالنقاش حول الشعر والشعرية، وتحديدا حول شعرية قصيدة النثر، بعد خفوت الصخب الذى أحدثته تنظيرات الشاعر الكبير أدونيس، والتى تبناها بعض شعراء السبعنيات، وروج لها بعض دعاة البنيوية فى النقد. وكان داود ينفر من هذه التنظيرات وإن كان يرقبها فى صمت ويخضعها لمزاجه فى الشعر والفن، ويستصفى منها نفسه ما يراه ملائما، لا سيما بعد تحوله من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر.
الولع بالتفاصيل الصغيرة ورفعها إلى مستوى الشعر كان همه الأول مع سماحة وسعة صدر فى التلقي، حتى لو كان الشاعر الذى يقرأه يرفع شعارات مناوئة. هكذا كان يحب عفيفى مطر شاعرا وإنسانا رغم أنه لم يكن من متبنى أرائه فى الشعر واللغة الكثيفة والوعى المعقد الملتبس. هذا ملمح من شخصية داود الخوف من تحويل الشعر إلى سجين لأيدولوجيا شعرية مغلقة.
فى ذاكرتى "وفى قصائده أيضًا" يبدو داود ريفيا جوالا مفتونا بالشوارع والأزقة والمقاهى وحركة البشر. لا ينظر شذرا للمدينة، ولا يحلم باغتصابها أو حتى تعكير المياة معها. سقطت الفوارق بين الفضائين الريف والمدينة، ذلك ان الفضاء تخلقه الذات أو الأحرى يخلقه وضع الذات كعنصر ضمن عناصر عدة متداخلة وغير متعادية. الفضاء ليس واقعا محضا منعزلا عن الذات بل هو نتاج فعل الذات الداخلية وهى تتحرك بين عزلتها وصخب الخارج. هذا الخارج ليس فى تناقض مع الذات، حتى لو رفضت ما فيه من قبح وعنف وإملاق مادى وروحي، الأحرى أن عليها أن تتلمس الأسباب ليصبح قابلا للحياة فيه. تلمس الأسباب، ومحاولة الفهم والتفهم شيء قديم راسخ لدى داود، شأن مزارع من دلتا مصر يبحث عن البهجة. هذا ما يفسر الغنائية الماثلة فى شعره ونثره على السواء. الغنائية فى الشعر الموزون الموقع يسهل خلقها من خلال الإيقاع العروضي، لا سيما فى البحور الصافية، لكنها تتحقق فى قصيدة النثر لديه وسردياته القصيرة من خلال إيقاع داخلى ناتج عن صلابة الجملة وتقطيع السطور وتوزيعها على الصفحة ووضوح النمط النحوى المبتعد عن التباس الضمائر. تلقى داود الشعر فى مرحلة تدريبه تحت سطوة الإيقاع الجزئى المهيمن فى قصيدة التفعيلة لا سيما فى غنائية أحمد عبد المعطى حجازى الواضحة أو غنائية سعدى يوسف المكبوحة أو فى عنائية محمد الماغوط النثرية فضلا عن شعر العامية المصرى الذى تهيمن فيه قيم الإنشاد والغناء. دعنك إرث المدرسة المصرية فى تجويد القرآن والإنشاد الصوفي. ذهب من هذا الإرث ما فيه من سمات خارجية نغمية، وبقيت روحه الداخلية التى أصبحت "طبعا لا تطبيعا" فى كتابة إبراهيم داود.
ليس مهما جدا أن تتصبح مصادر تطبيع الشاعر الفنان إلا ذا تلمسنا ما فعلته الذات بهذه المصادر، التى لا تكون عادة صافية أو من منبع واحد بل قد تتشابك خيوطها وعناصرها وتتداخل فتتبدى فى الكتابة نسيجا يصعب فكه وعزل خيوطه.
أرى فى شعر داود ونثره شعرية تبحث عن التماس الأسباب للعالم والبحث عن غفران لما فيه من مظالم وقبح، بحثا عن البهجة، بهجة الجسد وبهجة القصيدة، وبهجة الحكاية، بهجة هى شكل مراوغ ماكر لمقاومة ما ينطوى عليه الوجود من هشاشه وما يحتويه الواقع من مظالم. فى هذا يمكننا أن نفهم إيثاره لقصر النصر وتركيز دلالاته من خلال كلمات تشير غالبا إلى ما هو مادى أو نفيه للالتباس الذى يشوش على الذات فى علاقتها بالعالم وتفاصيله. غنها شعرية تبحث عن ما يجعل الشعر سببا للإفلات من شراك وجود غامض معقد لكن يجب عيشه والابتهاج به. وفى هذا ملمح صوفى بالمعنى العميق، يبحث عما فى الآخر، من صفات تجعله صديقا محتملا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة