حصل نجيب محفوظ على «جائزة الدولة» عام 1957، فأقام له الكاتب إحسان عبدالقدوس حفلا فى منزله بشارع قصر العينى بالقاهرة، حضره عدد كبير من الأدباء والصحفيين على رأسهم كامل الشناوى، وفيه بدأت أول خيوط أزمة رواية «أولاد حارتنا» التى بدأت «الأهرام فى نشرها مسلسلة من «21 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1959».
يذكر «محفوظ» وقائع ما جرى للناقد رجاء النقاش فى كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، مشيرا إلى أن «أولاد حارتنا» هى عمله الروائى الذى عاد به بعد انقطاع دام خمس سنوات من 1952 إلى 1957 توقف خلالها تماما عن الكتابة.. يؤكد: «لم أصدق نفسى عندما جلست أمام الورق من جديد لأعاود الكتابة، وكانت كل الأفكار المسيطرة علىّ فى ذلك الوقت تميل ناحية الدين والتصوف والفلسفة فجاءت فكرة «أولاد حارتنا»، لتحيى فى داخلى الأديب الذى كنت ظننته قد مات».
فى حفل التكريم بمنزل «عبدالقدوس» اقترب على حمدى الجمال، مدير تحرير الأهرام، «رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة عام 1975» من «محفوظ» قائلا له، إنه يكلمه باسم الأستاذ محمد حسنين هيكل، رئيس التحرير، وأنه يريد منه رواية لتنشر فى الجريدة على حلقات مسلسلة.. يضيف محفوظ: «لم أكن بدأت فى كتابة «أولاد حارتنا»، وبالتالى اعتذرت بأنه ليس لدى الآن رواية جاهزة للنشر، ووعدت «الجمال» بأن أول رواية أكتبها سأرسلها إلى «الأهرام»، وانتهيت من كتابة «أولاد حارتنا»، فاتصلت بالأستاذ على حمدى الجمال، وذهبت إليه بأوراق الرواية التى قرأها وأعجب بها، وصرح بنشرها دون أى ملاحظات، ويبدو أن الأستاذ الجمال قرأها على أنها رواية عادية عن حارة مصرية يقع بها صراع بين مجموعة من الفتوات».
لم يكن «الجمال» هو صاحب قرار النشر، وإنما بالطبع كان «هيكل» كرئيس تحرير للأهرام.. يكشف «هيكل» للكاتب الصحفى محمد شعير فى كتابه «أولاد حارتنا، سيرة الرواية المحرمة»: «وصلت الرواية إلى على حمدى الجمال الذى شعر بالقلق، وعطل نشرها دون أن يخبرنى بأمرها، ويبدو أن نجيب اشتكى لحسين فوزى الذى أخبرنى بأمر الرواية، وقلت لحسين فوزى: لا نستطيع أن نحجب عملا لمحفوظ مهما كان ناقدا وحادا، خاصة أننا جرينا وراه ليكتب فى الأهرام، ووسطنا توفيق الحكيم أكثر من مرة، ولكن محفوظ طلب الانتظار لحين أن يحال إلى التقاعد».
يواصل هيكل: «طلبت الجمال ليحضرها لى على الفور، أخذتها معى إلى المنزل وقرأتها فى ليلة واحدة.. وفى الصباح قررت نشرها وبشكل يومى، لا كما كان يحدث من قبل بأن تنشر الأعمال الأدبية بشكل أسبوعى، وهذا القرار اتخذته لسببين: الأول، أن حجم الرواية كبير، ونشرها أسبوعيا قد يستغرق ما يقرب من عام كامل وهى فترة طويلة، قد تتيح لمن يريد أن يستغل الرواية دينيا أن يوقف نشرها، وثانيا، لأننى أدركت رسالة الرواية وخطورتها».
يذكر شعير: «مر نشر الرواية بهدوء شديد، لكن عقب نشر الحلقة السابعة عشر - كما يقول هيكل - بدأت شكاوى ومطالبات للأزهر بالتحرك لوقف نشر الباقى منها، كل هذا وصل بالطبع إلى عبدالناصر، فسأل هيكل «إيه الحكاية؟»، فأوضح له ملابساتها، مختتما: «رواية كتبها نجيب محفوظ لا بد من نشرها، حتى آخر كلمة»، فقبل عبدالناصر باستكمال النشر، ولكن مع تزايد الصخب عاود عبدالناصر طرح الأمر على هيكل الذى اقترح عليه: «خليهم يعملوا لجنة من رجال الأزهر ويفحصوا الرواية».
يؤكد محفوظ لـ«النقاش»: «الأزمة بدأت بعد أن نشرت الصفحة الأدبية بجريدة «الجمهورية» خبرا يلفت فيه كاتبه النظر إلى أن الرواية فيها تعريض بالأنبياء».. يضيف: «بعد هذا الخبر المثير بدأ البعض ومن بينهم أدباء للأسف فى إرسال عرائض وشكاوى إلى النيابة العامة ومشيخة الأزهر، بل وإلى رئاسة الجمهورية يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمى إلى المحاكمة.. بدأ هؤلاء يحرضون الأزهر ضدى على أساس أن الرواية تتضمن كفرا صريحا، والشخصيات الموجودة فى الرواية ترمز إلى الأنبياء، وعرفت هذه المعلومات عن طريق صديق لى هو الأستاذ مصطفى حبيب، الذى كان يعمل سكرتيرا لشيخ الأزهر، وكان شقيقه يعمل وكيل نيابة وهو الذى أخبرنى بأن أغلب العرائض التى وصلت النيابة العامة أرسلها أدباء».
يعلق «محفوظ»: «خُدع رجال الأزهر فى هذه الأزمة، لأنهم لم يحسنوا قراءة الرواية وفهمها، بل إن بعضهم لم يقرأ رواية أدبية من قبل، ومن هنا فسروا «أولاد حارتنا» تفسيرا دينيا، ورأوا أن شخصية أدهم فى الرواية ترمز إلى «آدم»، وشخصية «جبل» هى موسى، وشخصية «رفاعة» هى المسيح، أما شخصية «قاسم» فهى شخصية محمد عليه الصلاة والسلام».. يؤكد «محفوظ»: «هيكل دافع عن الرواية.. لولاه لكان توقف نشرها فى الأهرام فورا».