"الدبلوماسية التشاورية".. مصطلح يبدو مهما في السياسة الدولية في المرحلة المقبلة، ربما ليس جديدا من حيث التطبيق العملى، حيث يبقى "التشاور" بين الدول من أساسيات العمل الدبلوماسي غير الرسمى، وإنما صار يتخذ منحى جديد، من حيث الإعلان عنها، ليضفى بعدا رسميا على طابعها غير الرسمي، لتمثل شكلا جديدا في العلاقات بين الدول فيما يتعلق بالمصالح المشتركة، بينما يمكنها تضييق فجوة الخلافات، من منطلق حقيقة مفادها أن فكرة "التطابق" الكلى في وجهات النظر أصبح أشبه بالمستحيل، مع اختلاف المعطيات الدولية، وتنوع القوى الحاكمة في المجتمع العالمى، ناهيك عما آل إليه التراجع الأمريكي من تنافس كبير بين العديد من الأطراف حول العالم، لتحقيق أكبر قدر من النفوذ في العديد من المناطق، لملء الفراغ الناجم عن ابتعاد واشنطن عن البؤر الصراعية، وتوجهها الصريح نحو استكشاف مناطق أخرى للتأثير تتسق مع الواقع الصراعى الجديد.
وهنا تصبح الاجتماعات التشاورية، أداة مهمة لتحقيق غايات عدة، أبرزها تضييق نطاق الصراعات، والتي باتت حتمية، في المرحلة الراهنة، عبر خلق المزيد من المصالح المشتركة، لتكون منطلق العلاقة بينهم، وهو ما يسمح بتجاوز، ولو مرحليا، القدر الأكبر من الخلافات، وهو ما يحقق قدرا كبيرا من الاستقرار سواء على الجانب الإقليمى أو الدولى، خاصة مع زيادة الاضطرابات الدولية في الآونة الأخيرة، والمخاوف الكبيرة إثر اندلاع الفوضى التي تمثل السبب الرئيسى في التراجع الاقتصادى، وأرضا خصبة للإرهاب، مما يهدد مصالح كافة الدول، والتي تسعى بالتبعية للتعاون، ولو مع خصومها، من أجل حماية أمنها، والذى يمثل في واقع الأمر الأولوية القصوى لها.
ولعل الجمهورية الجديدة في مصر، نجحت باقتدار، في تحقيق مزيج غير مسبوق بين الدبلوماسية الرسمية وغير الرسمية، عبر إضفاء طابعا شعبويا، على تحالفاتها الجديدة، على غرار تحقيق التقارب بين الشعوب، في إطار تدشين تحالفها مع اليونان وقبرص، من خلال مبادرة "العودة للجذور"، والتي قدمت الفرصة أمام اليونانيين والقبارصة من ذوى الأصول المصرية، لزيارة المناطق التي عاشوا فيها خلال فترات الصبا والشباب، وتعريف أولادهم من الأجيال الجديدة بها، من جانب، بالإضافة إلى تقديم الصبغة الرسمية لاجتماعات تشاورية، من المفترض أنها تحمل إطارا غير رسمي، على غرار القمة التشاورية للشركاء الإقليميين حول السودان فى 2019، والتي فتحت الباب أمام مؤتمر دعم السودان.
النهج المصرى الجديد في الدبلوماسية الدولية، حمل زخما كبيرا إلى حد استلهامه عربيا، حيث دشنت جامعة الدول العربية العديد من الاجتماعات التشاورية خلال الأشهر الماضية، وأخرها على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تعقد حاليا في نيويورك، في إطار التنسيق بين المواقف العربية، حيث يتم الإعلان عن تلك الاجتماعات، دون الكشف عن أجندة محددة لها، في مزيج بين ما تحمله تلك الاجتماعات من طابع رسمي، وطبيعة غير رسمية، حيث يبقى ما يدور داخل الكواليس في إطار من السرية، بينما تفتح الباب في الوقت نفسه أمام مصارحة حقيقية، بين الدول في القضايا الخلافية من جانب، بالإضافة إلى العمل معا على مجابهة التحديات والتهديدات المشتركة من جانب أخر.
يبدو أن منهج "الدبلوماسية التشاورية" أصبح بمثابة سبيل جديد أرسته الجمهورية الجديدة في مصر، بينما نجحت إلى حد كبير في تعميمه، عربيا، إقليميا، في ظل العديد من المستجدات، ربما أبرزها الحاجة إلى تحقيق أكبر قدر من التوافق في منطقة الشرق الأوسط، في المرحلة الراهنة، حتى يمكن احتواء التهديدات، وهو ما أثمر عن نجاحا مهما، تجلى بوضوح، على سبيل المثال، في مؤتمر بغداد، الذى عقد في الشهر الماضى، ليكون "سابقة" مهمة فيما يتعلق بجلوس القوى المتنافسة في منطقتنا جنبا إلى جنب على مائدة الحوار، لدعم العراق، في حضور الجامعة العربية.