مازالت مؤشرات أسواق المال إقليميا وعالمياً تتفاعل صعوداً وهبوطاً مع أزمة "ايفرجراند" عملاق العقارات الصيني، في ظل حالة ارتباك وضبابية حول قاع هذه الأزمة، وما قد تسفر عنه من نتائج تعود بنا إلى ما حدث في الأزمة المالية العالمية " 2007 – 2008"، وما ارتبط بها من عواصف اقتصادية، أثرت على معدلات النمو في أغلب دول العالم، خاصة في ظل سياسة "المسكنات" التي تتبعها الصين مع الأزمة، وعدم وجود صورة واضحة لحلول جذرية أو ممكنة.
الاقتصاد الصيني خلال السنوات الأخيرة لديه مشكلات كبيرة تتعلق بالرقابة والضوابط المفروضة على منح القروض، خاصة قطاع الاستثمار العقاري، الذي يعاني مشكلات كبيرة في التسويق وجحم المبيعات على مدار السنوات الفائتة، مع العلم أنه يمثل نحو 25% من إجمالي الناتج المحلى لبكين، الذى يصل إلى نحو 15 تريليون دولار، وهذا أصل المشكلة لدى "ايفرجراند" التي تحولت إلى كتلة ديون عملاقة، تحتاج إلى تدخل حاسم لتفكيكها وحسم موقفها، وهذا لن يكن قراراً سهلاً بل سيجتاح في طريقه عشرات البنوك المحلية الصينية، وعدد من المصارف العالمية ومؤسسات التمويل، ورجال أعمال ومستثمرين من مختلف دول العالم، ومشاهير سيخرجون من قائمة الأكثر ثراء، إلى السجون بعد ملاحقات قضائية من ملايين العملاء، الذين فقدوا أموالهم مع الشركة.
ايفرجراند ليست مجرد شركة عقارية عملاقة قد تسقط وتعلن إفلاسها وتسرح العاملين فيها، بل سيسقط معها مئات، ربما آلاف الموردين، في قطاعات إنتاج الحديد ومواد البناء، وصناعة الأثاث، وكل المستلزمات التي يتم استخدامها في هذا القطاع المتشعب، ناهيك عن البنوك والمؤسسات المصرفية، التي تعتبر الخاسر الأكبر في هذه الأزمة، بالإضافة إلى 1.5 مليون عميل لن يتمكنوا من استلام وحداتهم السكنية، و123 ألف عامل مباشر في الشركة، وبضعة ملايين من العمالة غير المباشرة، سيصبحون بلا عمل!
الحلول لتجاوز أزمة ايفرجراند ليست سهلة أو ممكنة كما يتصور البعض، فالقضية أكبر من سداد كوبونات أرباح لحاملي سهم الشركة بواقع 669 مليون دولار خلال الأيام المقبلة، وحتى نهاية العام الجاري، بل جبل ديون متصاعد وصلت قيمته حتى الآن إلى 305 مليارات دولار، ويتزايد بصورة يومية بفعل الفوائد المرتفعة، التي لن تتمكن الشركة بأي حال من الالتزام بسدادها، ولن تفلح نظرية "حرق الأسعار"، خاصة أن السوق متشبع، وفى حالة ركود ممتد، قد تصل إلى سنوات، مع التزام الصين بسياسات تنظيم الأسرة وإنجاب طفل واحد، على مدار سنوات طويلة، خففتها مؤخراً وسمحت بإنجاب طفل ثان، الأمر الذى يجعل الاحتياج لامتلاك وحدات عقارية بغرض السكن يسير بمعدلات بطيئة، أو ثابتة.
اتجاه ايفرجراند ناحية الاقتراض من المؤسسات المالية، بفوائد مرتفعة، في ظل رفض البنوك تقديم تمويلات جديدة، لن يحل المشكلة، بل يسهم في تعقيدها، خاصة أن هذه المؤسسات التمويلية تقدم قروضاً بفوائد طائلة على فترات سداد قصيرة، وهذا يدفع نحو المزيد من الديون على المدى القصير والمتوسط، في حين أن الشركة تحتاج إلى التخلص من ديونها أو جزء معتبر منها خلال الفترة المقبلة، حتى تتمكن من التعافي واستعادة نشاطها مرة أخرى، وما يحدث الآن قد يطيل عمر الشركة لأيام، ربما لشهور، لكنه يُعقد المشكلة، ويزيد من خطورتها وتبعاتها على الاقتصاد العالمي وقطاع الاستثمار العقاري.
أزمة ايفرجراند سوف ترفع مخاطر الاستثمار في القطاع العقاري على المديين القصير والمتوسط، وتضرب سمعته بصورة واضحة، خاصة أنه بات سببا أساسياً في انهيار أسواق المال والمؤسسات المصرفية، وكان طريقاً نحو أزمتين ماليتين في أقل من 15 عاماً، ليصبح استثمار محفوف بالمخاطر، على عكس السائد خلال الفترة الماضية بأنه آمن وأكثر القطاعات ربحية، ودورة النمو به أسرع من الأدوات الاستثمارية الأخرى، إلا أن كل هذا جائز وممكن قبل أزمة ايفرجراند، التي ستغير خريطة الاستثمار العقارى حول العالم، وستكون لها أصداء كبيرة خلال الفترة المقبلة.
لا أتصور أن هناك حلول ممكنة لتعويم عملاق العقارات الصيني، وإنقاذه من جانب بكين، فقد تجاوز الزمن مرحلة الإنعاش أو الإنقاذ، بعدما انتشر سرطان الديون في كل قطاعات الشركة، وكل ما يرتبط بها من موردين وبنوك وعملاء، وما يحدث الآن عبارة عن مسكنات تمنح وقت أطول للسقوط، وتخفف من حدة الانتقادات التي تواجه الشركة والحرج الكبير الذي يواجه الاقتصاد الصيني، إلا أن الأيام المقبلة ستكشف أن السقوط سيكون مدوياً وكارثياً وسيضرب معه اقتصاد العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة