مفارقة أننا ونحن على أبواب ذكرى انتصار 6 أكتوبر الثامنة والأربعين، أن يتزامن رحيل المشير طنطاوى، مع رحيل الصول أحمد إدريس، وكلاهما من أبناء أسوان والنوبة، فى رسالة تؤكد عظمة الجيش المصرى، بأجياله وعقيدته الوطنية، التى تستمر عبر الأجيال، بل إن اللواء باقى زكى يوسف، مبتكر إسقاط خط بارليف بخراطيم المياه، هو الآخر معه آلاف الأبطال صنعوا الانتصار، وأكدوا وحدة الشعب المصرى ووطنية جيشه العظيم.
أحد أبطال أكتوبر، وحراس مصر الأوفياء، المشير محمد حسين طنطاوى، أحد صناع العبور العظيم، والذى ساقته الأقدار لقيادة مرحلة من أكثر الأوقات صعوبة وتعقيدا بعد 2011، التحق بالكلية الحربية سلاح مشاة، وتخرج فى الدفعة 35 حربية، فى الأول من إبريل 1956، حيث حصل على بكالوريوس العلوم العسكرية، ودورة كلية الحرب العليا، شارك فى كل حروب مصر من عام 1956، ويونيو 67، وحرب الاستنزاف، وصولا إلى العبور العظيم، حيث كان قائد الكتيبة 16 التى عبرت مبكرا فى حرب أكتوبر 1973، وسجلت انتصارا فى معركة المزرعة الصينية.
ترقى المشير طنطاوى فى المناصب حتى تولى وزارة الدفاع عام 1991، حيث رقى إلى رتبة المشير فى أكتوبر 1993، حتى 2011، عندما تولى قيادة المجلس العسكرى فى فترة دقيقة وشديدة التعقيد، حافظ فيها على وحدة البلاد، ووحدة القوات المسلحة، وأدار مرحلة دقيقة شهدت تدخلات وأطماعا داخلية وخارجية، ومحاولات لإشعال حرب أهلية، أو إدخال الجيش فى مواجهة مع الشعب، وهو ما لم يحدث، وهنا تأتى أهمية الشهادة التى أعلنها الرئيس عبدالفتاح السيسى، وهو أحد أهم شهود هذه المرحلة الدقيقة، بأن القوات المسلحة بريئة من كل دم أو خسارة جرت، وحرص المشير على تأكيد عقيدة الجيش المصرى الحامى والنواة الصلبة.
والمفارقة أن رحيل المشير، تزامن مع رحيل بطل آخر من أبطال ملحمة العبور، هو الحاج أحمد إدريس، أو الصول إدريس، صاحب الشفرة النوبية التى كان لها دور حاسم فى انتصارات أكتوبر، دخل الصول أحمد إدريس الجيش عام 1954 كجندى متطوع، وحضر العدوان الثلاثى، وظل فى سيناء منذ عام 57 حتى يونيو 1967، وكان يعرف كل شبر فى سيناء، وكانت مهمته ضبط الحدود، وبعد تولى الرئيس السادات بنحو 3 أشهر، كان كلما أرسلت إشارة من جانبنا يفك العدو شفرتها، وهنا برز دور الصول أحمد إدريس الذى أبلغ اللواء ورئيس الأركان بفكرته، وهى استخدام اللغة النوبية، فى إرسال الإشارات، وهى لغة منطوقة وليست مكتوبة، وبالتالى يتم إرسال واستقبال الإشارات بها، ثم ترجمتها للعربية، ولن يتمكن العدو من فك الشفرة، انتقلت الفكرة إلى قائد الجيش، فنقلها للرئيس الذى استدعى «إدريس» سرا، وطلب منه ألا يخبر أحدا بهذا السر حتى لأقرب الناس له.
ومن ضمن المصطلحات، حسبما أعلن البطل الراحل إدريس فى حديث لـ«اليوم السابع»، التى تم استخدامها فى الحرب، هى «قور» بالنوبى تعنى نملة وتشير إلى الدبابة، و«أولوم» أى «تمساح»، و«إسلانجى» أى «ثعبان»، وترمز للعربات الحربية المجنزرة، ويطلق على الطائرة «الناموسة» وبالنوبية «زندنابى»، «أوشريا» يعنى اضرب، و«أوسكو» يعنى تحرك، وغيرها من الشفرات التى كانت تنقل عبر جهاز اللاسلكى بين المجندين النوبيين، وتترجم إلى قادة الوحدات، والقوات المسلحة تدرس استخدام اللغة النوبية بفروعها الأربعة، وهى «فاديكا والماتوكية»، وهما نوبيتان فى مصر، و«المحس ودنقلة» وهما نوبيتان فى السودان.
حفظ «إدريس» السر، حتى أفصح عنه سنة 2010 بعد ظهور مدع يزعم أنه صاحب هذا الاقتراح، واتضح أنه لا يعرف اللغة النوبية أصلا، ولم يلتحق بالجيش، ثم أعلن «إدريس» ذلك، وكرمه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى احتفالية ذكرى نصر أكتوبر.
ليرحل إدريس والمشير، ابنا الجنوب وبطلا الحرب، مثلما كان اللواء باقى يوسف، عبقرى ابتكار هدم خط بارليف بخراطيم المياه، ليكونوا مع مئات من أبناء مصر ضمن سلسال الأبطال، حماة الوطن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة