رحلة سريعة إلى سيناء الحبيبة، قادتني إلى متابعة معارك من نوع خاص تجري على أرض العريش. فبجانب معارك الدولة المصرية وقواتها المسلحة وشرطتها الباسلة على الأرض في حربها المقدسة ضد الارهاب، تقود القوى الناعمة معارك ضد قوى الشر والظلام لاتقل في ضراوتها عن المعارك المسلحة، بل إنها معارك تستهدف العقل بالدرجة الأولى، وتقدم مؤشرات قضية "الوعي".
شاءت الأقدار لي أن أكون مرتبطاً بسيناء الحبيبة، على مدى عقود، تشرفت فيها خلال عملي محرراً عسكرياً، بتسجيل وتوثيق صفحات من أروع بطولات "منظمة سيناء العربية،" وهي المنظمة التي أسستها المخابرات الحربية المصرية خلال سنوات حرب الاستنزاف بمعاونة شيوخ قبائل سيناء، الذين كان لهم الفضل في تقديم أهم المعلومات للجيش المصري، والتي ساهمت في تحقيق النصر المجيد عام 1973، كذلك بطولات المجموعة ( 39 ) قتال وقائدها الشهيد العميد أ.ح إبراهيم الرفاعي ورجاله، الذين نفذوا عمليات غير تقليدية على طول خط المواجهة، خلال سنوات الحرب.
وظل ارتباطي بسيناء جزء من هويتي، فلا يمر عام دون أن أزورها، وحتى أخر زيارة في أكتوبر الماضي، بدعوة من اللواء محمد عبد الفضيل شوشة محافظ شمال سيناء للمشاركة في الندوة التثقيفية عن حرب أكتوبر المجيدة، وللحقيقة فقد رصدت كيف جاهدت القوات المسلحة والدولة المصرية بكافة مؤسساتها وأجهزة لاستعادة الأرض والحفاظ عليها، لكني توقفت أمام محاولات فردية من القوى الناعمة السيناوية، التي كان لها أبلغ التاثير في المجتمع حتي يناير 2011 ، وبعد اختلال الوضع الأمني لم تعد هذه القوى قادرة على المواجهة، بل تبعثرت وخفت حضورها بشكل كبير.
في العام الماضي، إلتقت عدداً كبيراً من شباب العريش، وتحدثنا عن أحلام بعودة النشاط الثقافي سواء من جانب الدولة متمثلة في وزارة الثقافة أو من جانب المجتمع المدني نفسه، متمثلاً في المراكز الثقافية وأندية الأدب المحلية وغيرها.
وفي إعتقادي أن القوى الناعمة تستطيع أن تخوض معارك في قضية الوعي، لاتقل في شراستها عن المعارك الضارية التي تخوضها قواتنا الباسلة، فالمجتمع السيناوي تأثر كثيراً خلال فترة الانفلات، وأن المواجهة لابد وأن تتضمن معارك فكرية ناضجة، تلعب فيها القوى الناعمة دوراً مؤثراً.
خلال الأيام القليلة الماضية، تشرفت بزيارة " قصر ثقافة العريش"، وهو شعلة التنوير التي رفعتها الثقافة المصرية في مواجهة قوى الظلام مع بداية هذا العام، وشاركت مجتمع العريش في مناقشات مفتوحة تتعلق بقضية الوعي عبر صالون" شمال سيناء الثقافي"، بحضور نخبة من الاعلاميين والكتاب.
خلال الزيارة ، شاركت في أعمال "مؤتمر العريش الأدبي" والذي أقيم ليوم واحد تحت عنوان " الأدب السيناوي وتحديات الوضع الراهن" – دورة الراحل حسن أبو غنيم- وخلال المؤتمر الذي نظمه إقليم القناة وسيناء الثقافي، أدركت أن معركة القوى الناعمة قد حققت تقدماً كبيراً وأن الأدب السيناوي بدأ في إستعادة بريقه مرة أخرى بعد أن كانت سيناء منافساً قوياً في كل المسابقات المحلية والقومية.
الملفت للنظر هو ذلك الايمان الكبير من المجتمع المحلي بالمشاركة، وتحفيز الدولة لهم. فقد سعدت بالجلوس مع براعم الموهوبين من أبناء " حي الكرامة"، وهو من الأحياء الواقعة على أطراف العريش، وأطلعت على أعمال فنية تستحق التقدير والدعم، خاصة الاطفال في سن العاشرة أو ما يقاربها، الذين عاصروا المواجهات، ولم تتح لهم فرصة التنوير وتفجير مواهبهم الحقيقية.
من بين التجارب التي تستحق الشهادة هو " بيت الكرامة"، وهو مركز ثقافي أهلى يتبناه شاب يدعى " أحمد بخيت" من أبناء حي الكرامة، فقد سعى وأقرانه لتأسيس هذا المركز بامكانات متواضعه، لكنها مؤثرة في مجتمعه..
معارك مصر في المواجهة والبناء ..تحتاج إلى مزيد من الدعم للقوى الناعمة، التي تستطيع هي الأخرى أن تحقق نتائج مذهلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة