"الرهان على فلسطين".. شعار رفعته الدبلوماسية المصرية دائما، رغم تقلبات السياسة والأوضاع العربية، على مدى سبعة عقود ، وفى الآونة الأخيرة عادت القضية الفلسطينية بفضل الجهود المصرية أيضا ، إلى الواجهة بعد أن ظنها المتربصون قد ماتت ،نظرا لمجموعة من المعطيات، أبرزها أن القضية الفلسطينية تبقى أحد أهم نقاط الإجماع العربي، ومن خلالها يمكن تحقيق قدر كبير من التوافق في القضايا الخلافية، ناهيك عن مساعى قوى إقليمية غير عربية، سعت لسنوات منذ ما قبل "الربيع العربي" نحو "سرقة" القضية لصالحها كجزء من صراع النفوذ الذى شهدته المنطقة خلال تلك الفترة، وبالتالي تجسدت الأولوية في العودة مرة أخرى للقضية، واعادتها لتتصدر الأجندات الدولية، باعتبارها القضية الرئيسية في المنطقة من جانب، بالإضافة إلى كونها تمثل الاهتمام الأول للدول العربية من جانب اخر، بعد سنوات التهميش التى عانت منها فلسطين على خلفية الفوضى المدمرة التي شهدتها البلدان العربية.
ولعل مسألة إعادة الزخم للقضية الفلسطينية يمثل نجاحا مهما، سواء للدولة المصرية، أو الدبلوماسية العربية، حيث يبقى بمثابة إعلان رسمى، عن انتصار الدولة الوطنية، بهويتها العربية، في العديد من المعارك التى خاضتها في العقد الأخير، أولها معركة الفوضى التى كانت تستهدف تدمير الدول العربية من الداخل، وإعادة تقسيمها، بالإضافة إلى استعادة الدور العربي في القضية الرئيسية بالمنطقة، بعد محاولات إقليمية لمزاحمتهم، عبر استبدال عنصر "العروبة" بعناصر اخرى، أبرزها مسألة "الدين"، وما ترتب على ذلك من دعوات استهدفت كل ما هو عربي، لتقويض الهوية، وعلى رأسها جامعة الدول العربية، التي طالما نظر إليها العالم باعتبارها "بيت العرب".
إلا أن اهتمام العرب بالقضية، لم يقتصر على مجرد العودة إلى إثارتها، في مختلف المحافل العربية والدولية، وانما امتد إلى التعامل معها بحسب المعطيات الدولية والاقليمية الجديدة، خاصة مع التغييرات العميقة التي يشهدها النظام الدولي، في ضوء صعود قوى دولية جديدة يمكنها مزاحمة الهيمنة الامريكية على العالم، وعلى رأسها الصين وروسيا، بالإضافة إلى قوى أخرى طامحة، لاستعادة امجادها، على غرار فرنسا، والتي تشهد حالة غير مسبوقة من التوتر مع واشنطن، مما خلق حالة من تعارض المصالح بينهما، الى جانب التوجه الأمريكي الصريح بالانسحاب من الشرق الأوسط، ولو مرحليا، سعيا نحو مناطق اخرى يمكن من خلالها تطويق "التنين" الصيني، والذى بات ابرز خصوم أمريكا في العالم في المرحلة الراهنة، ليس فقط على المستوى الاقتصادى، وانما ايضا على المستويين السياسي والعسكرى.
وهنا كانت الدعوة العربية، والتي أطلقها الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، خلال حوار تفاعلى مع الامم المتحدة، على هامش أعمال اجتماعات الجمعية العامة، لتكون القضية الفلسطينية برعاية أممية، تحت مظلة مجلس الأمن الدولي، في إطار محاولة لتنويع الأدوار الدولية في القضية، بدلا من الاعتماد على واشنطن وحدها لعقود طويلة من الزمن، وهو ما يسمح بمزيد من المرونة في المفاوضات، بالإضافة إلى توسيع نطاق الدعم الدولي الذى تحظى به فلسطين، بحيث لا يقتصر على الجانب العربي والاقليمي، وانما يمتد إلى القوى الدولية التي يمكنها القيام بدور كبير في القضية بعد سنوات من الاستئثار الامريكي بها.
الدعوة العربية بتنويع القوى الدولية المتداخلة في القضية الفلسطينية، تبدو مهمة، وتحمل ادراكا للواقع الدولى الجديد، خاصة وأن الدور الامريكي المنفرد في العديد من القضايا الدولية بات امرا نادرا، منذ سنوات، وهو ما يبدو في وقائع دولية كثيرة في السنوات الاخيرة، أبرزها الاتفاق النووى الايراني، والذى لم توقعه واشنطن بصورة ثنائية مع طهران، وانما كان الامر جماعيا عبر اشراك الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا، كممثل الاتحاد الأوروبي، وهو ما يضمن قدرا من الموضوعية أثناء المفاوضات في ظل تنوع التوجهات التي تتبناها الدول المشاركة، خاصة في مجلس الأمن، إذا ما وضعنا في الاعتبار الدور الهام للصين وروسيا، ومحاولتهما لبناء تحالف قوى من الدول النامية يمكنه مجابهة امريكا وحلفائها.
يبدو أن الدعوة العربية الاخيرة، تمثل بعدا مهما في طريق الحل للقضية الفلسطينية في المستقبل، بالإضافة الى كونها السبيل لوساطة تبدو أكثر نزاهة، بعيدا عن النهج القائم على الانحياز لطرف دون الأخر طيلة العقود الماضية، كما انه يمثل عودة قوية للعرب بعد سنوات الفوضى، من خلال اعادة الزخم لقضيتهم الرئيسية.