ربما كان قرار التقاعد، والخروج من المشهد السياسى، فى 2018، مرتبطا لدى قطاع كبير من المحللين، بالظروف الصحية التى تمر بها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتى ظهرت مصابة بـ"رعشة" مريبة فى أكثر من مناسبة رسمية، وهو ما فسره المقربين منها بحالة من التوتر والإرهاق، إلا أن قرارا بتنحى "المرأة الحديدية"، يحمل فى جوهره العديد من الأبعاد الأخرى، أبرزها، الخفوت الكبير فى نجمها، والذى لمع بشده فى سنوات سابقة، تزامنت مع حقبة الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما، إلى الحد الذى وضع ألمانيا على قمة الاتحاد الأوروبى، إلا أن دور برلين تراجع بشدة، مع ظهور ترامب المفاجئ على الساحة السياسية الدولية، ورؤيته المناوئة، سواء للاتحاد الأوروبى، بصورته الجمعية، أو لألمانيا، بصورة خاصة، أو حتى لميركل بشكل شخصى.
رؤية ترامب قامت فى الأساس على تفكيك الاتحاد الأوروبى، وهو ما يتوافق مع نهجه الشعبوى، بينما كان يحمل الرجل فى شخصيته حنينا للتاريخ الأمريكى المتصالح مع بريطانيا، إذا ما وضعنا فى الاعتبار عوامل الثقافة واللغة، ناهيك عن دعمه الغير محدود لفكرة الخروج "الخشن" من التكتل القارى، دون مواءمات، وهو ما يفسر دعمه الضمنى لرئيس الوزراء بوريس جونسون، والذى طالما أشاد به فى العديد من المناسبات، على خلفية تطابق مواقفهما تجاه أوروبا الموحدة، فى حين لم تشهد السياسة الأمريكية اختلافا كبيرا مع وصول الرئيس جو بايدن، على عكس التوقعات التى سبقت قدومه على عرش البيت الأبيض، حيث بقى داعما للندن، مهمشا لبرلين، بل وامتدت مواقفه إلى الوقوف فى وجه باريس، والتى تستعد لخلافة ميركل على العرش القارى، وهو ما بدا بوضوح فى صفقة الغواصات الأسترالية التى أفسدتها واشنطن عن عمد، لتضر بمصالح فرنسا، قبيل انطلاق الانتخابات الرئاسية بشهور قليلة.
ولعل الملفت عند النظر إلى الانتخابات الألمانية، بعيدا عن خسارة حزب ميركل، أن ثمة انتصارا تاريخيا حققه الحزب الاشتراكى الديمقراطى، وهو ما يمثل حلقة مهمة من تغيير قواعد اللعبة الدولية، التى تسعى واشنطن لإعادة هيكلتها، والتى كانت مبادئ الرأسمالية العالمية جزءً لا يتجزأ منها، وهو الأمر الذى تجلت أول صوره، مع إقدام بلاد "العم سام" على فرض تعريفات جمركية، على الواردات القادمة إليها، والتى امتدت إلى الشركاء، فى دول "المعسكر الغربى"، بالإضافة إلى خطواتها الأحادية المتواترة، سواء المرتبطة بالاتفاق النووى مع إيران، أو الخروج من أفغانستان، ثم الانسحاب المنتظر من العراق، رغم أن الدخول إلى تلك المناطق كان جماعيا، وهو ما يمثل "إرهاصات" لما يمكننا تسميته "انقلابا" مكتمل الأركان.
وللحقيقة، فإن الانقلاب الأمريكى على مبادئ الرأسمالية، لم يقتصر على العلاقة مع الحلفاء، وإنما امتد فى جزء كبير منه على الداخل الأمريكى نفسه، وبعض الدول الأخرى التى باتت تعتمد عليها، وعلى رأسها بريطانيا، وإن كان على استحياء، وهو ما يبدو فى الخطاب السياسى الذى تتبناه إدارة بايدن، حيث ركزت بشكل صريح، مع بداية حقبتها، على إبراز مفهوم "الإعانات"، وذلك لدعم المواطنين الذين فقدوا وظائفهم، أو أولئك الذين تضرروا جراء تفشى فيروس كورونا، وهو ما بدا فى خطة التحفيز التى اقترحتها الإدارة الأمريكية، والتى من شأنها مساعدة الشركات الصغيرة، بالإضافة إلى زيادة إعانات البطالة المخصصة للعاطلين عن العمل فى الولايات المتحدة، ناهيك عن ضخ المليارات فى مشروعات البنية الأساسية، لاستيعاب ملايين المواطنين، فى العمل، بينما اتجهت بريطانيا نحو زيادة الإعانات للفقراء مؤخرا، لمواجهة "شراسة" تداعيات فيروس كورونا.
وهنا يصبح وصول الحزب الاشتراكى فى ألمانيا إلى سدة السلطة، على حساب الحلفاء التاريخيين لأمريكا، بمثابة خطوة جديدة، لإعادة "غربلة" الحلفاء، خاصة فى دول الغرب الأوروبى، وهو ما يحمل فى طياته أهدافا تتجاوز ألمانيا وميركل والمعسكر الغربى، والمبادئ التى أرستها واشنطن منذ منتصف الأربعينات من القرن الماضى، لتمتد إلى الحرب التى تخوضها واشنطن مع بكين، حيث تسعى الولايات المتحدة من جديد لوضع قواعد جديدة، تبدو أكثر اتساقا مع النظام الدولى الجديد، وطبيعة الصراع القادم، الذى ستخوضه مع بكين.
ميركل ربما كانت "سيدة المرحلة" بالنسبة لأمريكا، فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، برؤيتها الرأسمالية، ونزعاتها الليبرالية، إلا أن تغير المعطيات الدولية، ساهم ليس فقط فى خروجها من المشهد السياسى، وإنما نحو تقويض إرثها، وهو ما يعكس مرحلية الرؤى الأمريكية، ويمثل جرس إنذار مهم لحلفاء واشنطن فى المرحلة المقبلة فى مسألة الاعتماد الكلى على الحليف الأمريكي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة